مسألة 
من المخاطب بالسعي هنا ؟ ، أي : من الذي تجب عليه الجمعة ؟  تستهل الآية الكريمة بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا  ، وهو نداء عام لكل مؤمن ذكر ، وأنثى ، وحر ، وعبد صحيح ومريض ، فشمل كل مكلف على الإطلاق كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام    . 
وقوله تعالى : ( فاسعوا    ) الواو فيه للجمع ، وإن كانت للمذكر إلا أنها عائدة إلى الموصول السابق وهو عام كما تقدم ، فيكون طلب السعي متوجها إلى كل مكلف إلا ما أخرجه الدليل . 
وقد أخرج الدليل من هذا العموم أصنافا ، منها : المتفق عليه ، ومنها المختلف فيه . 
فمن المتفق عليه : ما أخرج من عموم خطاب التكليف كالصغير والنائم والمجنون  لحديث " رفع القلم عن ثلاثة   " . 
وما خرج من خصوص الجمعة ، كالمرأة إجماعا فلا جمعة على النساء  ، وكالمريض فلا جمعة عليه اتفاقا  كذلك . 
وهو من يشق عليه أو يزيد مرضه ، ومن يمرضه تابع له ، وقد اختلف في المسافر   [ ص: 175 ] والمملوك ، ومن في حكم المسافر  وهم أهل البوادي . 
قال القرطبي    : قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا  خطاب للمكلفين بإجماع ويخرج منه المرضى ، والزمنى ، والعبيد ، والنساء بالدليل ، والعميان ، والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة    . 
روى أبو الزبير  عن جابر  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريضا ، أو مسافرا ، أو امرأة ، أو صبيا ، أو مملوكا ، فمن استغنى بلهو ، أو تجارة ، استغنى الله عنه ، والله غني حميد   " ، خرجه  الدارقطني    . اهـ . 
ويشهد لما رواه القرطبي  ما رواه ابن حجر  في بلوغ المرام عن  طارق بن شهاب    - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة : مملوكا ، وامرأة ، وصبيا ، ومريضا    " ، رواه أبو داود    . 
وقال : طارق  لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر أبو داود  أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه ، وأخرجه الحاكم  من رواية طارق  المذكور عن أبي موسى    . اهـ . 
قال الصنعاني    : يريد المؤلف بهذا ، أي برواية عن أبي موسى  أنه أصبح متصلا . 
قال : وفي الباب عن  تميم الداري  ،  وابن عمر  ومولى لابن الزبير  ، رواه البيهقي  وناقش سنده . 
وقال : وفيه أيضا من حديث  أبي هريرة  مرفوعا " خمسة لا جمعة عليهم : المرأة ، والمسافر ، والعبد ، والصبي ، وأهل البادية   " . اهـ . 
وقد ذكر صاحب المنتقى حديث طارق  كما ساقه صاحب البلوغ ، وقال الشوكاني  فيه : قال الحافظ : وصححه غير واحد . 
وقال الخطابي    : ليس إسناد هذا الحديث بذاك ، وذكر صحبة طارق  ، ونقل قول العراقي  ، فإذا ثبتت صحبته فالحديث صحيح ، وغايته أن يكون مرسل صحابي وهو حجة عند الجمهور ، إنما خالف فيه  أبو إسحاق الاسفرائيني  ، بل ادعى بعض الأحناف الإجماع على أن مرسل الصحابي حجة . اهـ . 
 [ ص: 176 ] وقال الشوكاني    : على أنه قد اندفع الإعلال بالإرسال بما في رواية الحاكم  من ذكر أبي موسى  إلى آخره ، أي صار موصولا ، كما قال ابن حجر  سابقا . 
ووجه حجية مرسل الصحابي عندهم ، هو أن الصحابي إذا أرسل الحديث ولم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - واسطة وتلك الواسطة هي صحابي آخر والصحابي ثقة ، فتكون الواسطة الساقطة ثقة ، فيصح الحديث ، ولذا ادعى بعض الأحناف أن مرسل الصحابي حجة لهذا السبب ، وعلى هذا مناقشة أهل الحديث والتفسير لهذه المسألة ، وبالتأمل في الآية الكريمة وعموم السياق يظهر من مجموعه شهادة القرآن ، إلى صحة ذلك لدلالة الإيماء . 
أما عن النساء ففيه الإجماع كما تقدم ، ويشهد له أن الدعوة إلى السعي إلى الجمعة ، وترك البيع من أجلها ، ثم الانتشار بعدها في الأرض والابتغاء من فضل الله بالعمل والكسب يشعر بأن هذا كله للرجال ; لأن المرأة محلها في بيتها  ، كما في قوله تعالى : وقرن في بيوتكن    [ 33 \ 33 ] . 
وتقدم لفضيلة والدنا الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مبحث مفصل استدل بدليل قرآني على سقوط الجمعة عن النساء ، وذلك عند قوله تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال  رجال    [ 24 \ 36 - 37 ] . وبين - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مفهوم ( رجال ) هل هو مفهوم صفة أو مفهوم لقب ، وساق علاقة النساء بالمساجد في الجمعة وغيرها . 
أما المملوك فمما يستأني له أيضا من السياق في قوله تعالى : وذروا البيع  ، إذ البيع والشراء ابتداء ليس من حق العبيد إلا بإذن السيد . وقوله : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله  ، فإن المملوك لا ينتشر في الأرض إلا بإذن السيد أيضا ، وكذلك المسافر فليس مشتغلا ببيع ولا محل اشتغال به ، وهو منتشر في الأرض بسفره وسفره شاغل له ، وبسفره يقصر الصلاة ويجمعها . 
وقد حكى الشوكاني  الاتفاق بين الفقهاء على سقوط الجمعة عن المملوك  إلا داود  ،   [ ص: 177 ] وكذلك المسافر إذا كان سائرا ، أما إذا كان نازلا ، فخالف فيه داود  أيضا . 
ومما استدل به الجمهور على سقوط الجمعة عن المسافر  وقت نزوله ما وقع من فعله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، إذ كانت الوقفة يوم الجمعة ، وكان - صلى الله عليه وسلم - نازلا ولم يصل الجمعة ، بدليل أنه لم يجهر بالقراءة ، ونازع في ذلك  ابن حزم  وقال : غاية ما فيه ترك الجهر في الجهرية ، وهذا لا يبطلها ، ولكن يمكن أن يقال له : لقد قال صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني مناسككم   " . 
والصلاة أثناء الحج مما يؤخذ عنه - صلى الله عليه وسلم - كالجمع تقديما في عرفة  ، وتأخيرا في مزدلفة  ، ولا يتأتى أن يترك الجهر في الجهرية وهو أقل ما فيه أنه خلاف الأولى ويأمرهم أن يأخذوه عنه . 
ومن هذا كله صح ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا جمعة على مملوك ولا مسافر ، كما لا جمعة على المرأة والمريض ، وبالله تعالى التوفيق . 
قال ابن كثير    : وإنما يؤمر بحضور الجمعة الرجال الأحرار دون العبيد والنساء والصبيان ، ويعذر المسافر ، والمريض ، ويتم المريض وما أشبه ذلك من الأعذار . 
أما سقوطها عن أهل البوادي ومن في حكمهم ، فهو قول للجمهور مع اختلافهم في تحقيق المناط في ذلك بين المصر والقرية ، والبادية ، وبالرجوع إلى أقوال الأئمة نجد الخلاف الآتي أقوال الأئمة في مكان الجمعة    . 
أولا : عند أبي حنيفة    - رحمه الله - قال في الهداية ما نصه : لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع أو في مصلى المصر ، ولا تجوز في القرية لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا جمعة ، ولا تشريق ، ولا فطر ، ولا أضحى إلا في مصر جامع   " . 
وفسر الشارح ابن الهمام  المصر بقوله : والمصر الجامع كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود ، وناقش الأثر الذي أورده المصنف قائلا : رواه  ابن أبي شيبة  موقوفا على علي  رضي الله عنه : لا جمعة ، ولا تشريق ، ولا صلاة فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع أو مدينة عظيمة ، صححه  ابن حزم    . 
ورواه عبد الرزاق  من حديث عبد الرحمن السلمي  عن علي    - رضي الله عنه - قال : لا تشريق ، ولا جمعة ، إلا في مصر جامع   . اهـ . 
 [ ص: 178 ] وذكر هذا الأثر القرطبي  موقوفا على علي  رضي الله عنه . 
وعند المالكية قال في متن خليل  في فصل شروط الجمعة ما نصه : باستيطان بلد أو أخصاص لا خيم . 
وفسر الشارح الاستيطان بالعزم على الإقامة على نية التأبيد ، ولا تكفي نية الإقامة ولو طالت ، وجاء في المتن بعدها قوله : ولزمت المكلف الحر الذكر بلا عذر المتوطن . 
وقال الشارح على كلمة متوطنا : هو أيضا من شروط الوجوب ، يعني : أنه يشترط في وجوبها الاستيطان ببلد يتوطن فيه ويكون محلا للإقامة يمكن الشراء فيه ، وإن بعدت داره من المنارة سمع النداء أو لم يسمع ، ولو على خمسة أميال أو ستة إجماعا ، لا تجب على مسافر ، ولا مقيم ولو نوى إقامة زمنا طويلا إلا تبعا . اهـ . أي تبعا لغيره . 
وعند  الشافعي  قال في المهذب ما نصه : ولا تصح الجمعة إلا في أبنية يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة من بلد أو قرية ; لأنه لم تقم جمعة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في أيام الخلفاء إلا في بلد أو قرية ، ولم ينقل أنها أقيمت في بدو ، فإن خرج أهل البلد إلى خارج البلد فصلوا الجمعة لم يجز ; لأنه ليس بوطن فلم تصح فيه الجمعة كالبدو ، وإن انهدم البلد فأقام أهله على عمارته ، فحضرت الجمعة لزمهم إقامتها ; لأنهم في موضع الاستيطان . 
قال النووي  في الشرح ما نصه : قال أصحابنا : يشترط لصحة الجمعة أن تقام في أبنية مجتمعة يستوطنها شتاء وصيفا من تنعقد بهم الجمعة . 
قال  الشافعي  والأصحاب : سواء كان البناء من أحجار ، أو أخشاب ، أو طين ، أو قصب ، أو سعف أو غيرها ، وسواء فيه البلاد الكبار ذوات الأسواق والقرى الصغار ، والأسراب المتخذة وطنا ، فإن كانت الأبنية متفرقة لم تصح الجمعة بلا خلاف ; لأنها لا تعد قرية ويرجع في الاجتماع والتفرق إلى العرف . 
وأما أهل الخيام فإن كانوا ينتقلون من موضعهم شتاء وصيفا وهي مجتمعة بعضها إلى بعض فقولان ، ثم قال : أصحهما باتفاق الأصحاب لا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم ، وبه قطع الأكثرون ، وبه قال مالك  وأبو حنيفة  ، ثم ذكر الدليل بقوله لحديث : " صلوا كما رأيتموني أصلي   " ، ولم يصل هكذا . 
 [ ص: 179 ] وعند الحنابلة قال في المغني ، ما نصه : 
فصل : فأما الاستيطان فهو شرط في قول أكثر أهل العلم ، وهو الاستيطان في قرية على الأوصاف المذكورة لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء ، ولا تجب على مسافر ، ولا على مقيم في قرية يظعن أهلها عنها في الشتاء دون الصيف ، أو في بعض السنة . 
فإن خربت القرية أو بعضها وأهلها مقيمون فيها عازمون على إصلاحها فحكمها باق في إقامة الجمعة بها وإن عزموا على النقلة عنها لم تجب عليهم لعدم الاستيطان . 
هذه خلاصة أقوال أهل المذاهب الأربعة متفقة على اشتراط الوطن والاستيطان  ، وإن اختلفت في صفة الوطن من مصر أو قرية أو نحوها مبنية بحجر أو طين ، أو أخشاب ، أو خيام ثابتة صيفا وشتاء على ما تقدم . 
وقد انفرد أبو حنيفة  ومعه صاحبه أبو يوسف  باشتراط وجود الأمير والقاضي الذي يقيم الحدود احترازا من القاضي الذي لا يقيم الحدود ، كقاضي السوق ، أو إذا كان من يلي القضاء امرأة على مذهبه في ذلك وهي لا تقضي في الحدود لعدم جواز شهادتها فيها ، واكتفى الأئمة الثلاثة بمطلق الاستيطان ، ومعلوم أن الاستيطان يستلزم الإمارة شرعا وعقلا . 
أما شرعا ، فلقوله صلى الله عليه وسلم : " ما من ثلاثة لا يؤمرون عليهم أميرا إلا استحوذ عليهم الشيطان   " . 
وعقلا ، فإن مستوطنين لا تسلم أحوالهم من خلافات ، ومشاحة فيما بينهم فلا بد من شخص يرجعون إليه ، وهو في معنى الأمير المطلوب ، كما أن الاستيطان يستلزم السوق لحوائجهم كما هو معلوم عرفا . 
وقد استدل الجمهور بحديث  ابن عباس  رضي الله عنه : أن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقرية من قرى البحرين  يقال لها جواثى  ، وبحديث أبي أمامة  أنه جمع بهم بالمدينة  قبل مجئ النبي - صلى الله عليه وسلم - في هزم من حرة بني بياضة  يقال له : نقيع الخضمات  ، مما لا يستلزم المصر الذي اشترطه أبو حنيفة  رحمه الله . 
 [ ص: 180 ] وأجاب الأحناف عن ذلك بعدم المعارضة بين حديث علي  وحديث  ابن عباس  ، وفعل أبي أمامة  ، وقالوا : إن قول علي  لا يكون إلا عن سماع ، ولأن قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله  ، ليس على إطلاقه بإنفاق الأمة ، إذ لا يجوز إقامتها في البراري إجماعا ، ولا في كل قرية عند  ابن عباس  ، بل يشترط ألا يظعن أهلها عنها صيفا ولا شتاء ، فكان خصوص المكان مرادا فيها إجماعا ، فقدر القرية من أخذ بحديث  ابن عباس  بأنها القرية الخاصة ، وقدر الأحناف المصر وقالوا : هو أولى لنص حديث علي    : " إلا في مصر جامع   " ، وقالوا : إن إقامتها في قرية جواثى  غاية ما فيه تسمية جواثا  قرية ، وهذه التسمية هي عرف الصدر الأول ، وهو لغة القرآن في قوله تعالى : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم    [ 43 \ 31 ] أي : مكة  والطائف  ، ومكة  بلا شك مصر ، وفي الصحاح أن جواثا  حصن بالبحرين  ، فهي مصر إذ الحصن لا يخلو عن حاكم عليهم وعالم ، أما صلاة أبي أمامة  فلم تكن عن علم ولا تقرير من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا كانت شرعت الجمعة آنذاك ، فلا حجة فيه . والذي يقتضيه النظر بين هذه الأقوال والله تعالى أعلم : أن رأي الجمهور أرجح . ويتمشى مع قواعد مذهب أبي حنيفة  في الجملة ; لأن الأحناف يتفقون مع الجمهور على تسمية المصر قرية كتسمية الطائف  ومكة  قرى . 
وجاء في القرآن : مكة    : أم القرى    [ 6 \ 92 ] ، فالقرية أعم من المصر ، ومذهب أبي حنيفة  تقديم العام على الخاص في كثير من الأمور ، كما في حديث : " فيما سقت السماء العشر   " ، فقدمه على حديث : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة   " ، ومن هذا كله يتضح أن الاستيطان مجمع عليه ، فلا تصح في غير وطن ، ولا تلزم غير مستوطن ، ومن قال بغير ذلك فقد خالف الأئمة ، وشذ عن الأمة ، وليس له سلف فيما ذهب إليه ، والذي قاله الجمهور يشهد له سياق القرآن الكريم بالإيماء والإشارة ; لأننا لو أخذنا بعين الاعتبار الأمر بالسعي إلى ذكر الله ، وترك البيع حتى لا يشغل عنها ، ثم الانتشار في الأرض بعد قضائها ; لتحصل عندنا من مجموع ذلك كله أن هناك جماعة نوديت وكلفت باستجابة النداء والسعي ، ثم الكف عن البيع الذي يشغل عن السعي ، ومثل هذا البيع الذي يكلفون بالكف عنه والذي يخشى منه شغل الناس عن السعي إلى الجمعة لا يكون عقدا بين اثنين فقط ، ولا يكون عملا فرديا بل يشعر بأنه عمل بين أفراد عديدين ومبايعات متعددة مما يشكل حالة السوق ، والسوق لا يكون في البوادي بل في القرى وللمستوطنين . 
 [ ص: 181 ] والعادة أن أهل البوادي ينزلون إلى القرى والأمصار ; للتزود من أسواقها ، وإذا وجد السوق ، ووجدت الجماعة ، اقتضى ذلك وجود الحاكم لاحتمال المشاحة والمنازعات ، كما تقدم استلزام ذلك شرعا وعقلا ، كما أن قوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله  ، يدل على الكثرة ; لأن مادة الانتشار لا تطلق على الواحد ولا الاثنين ، كما في حديث : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا   " ، ومنه انتشار الخبر لا يصدق على ما يكون بين اثنين ، أو أكثر ، إذا كانوا يتكتمون ، فإذا استفاض وكثر من يعرفه ، قيل له : انتشر الخبر . 
قال صاحب معجم مقاييس اللغة في مادة نشر : النون والشين والراء أصل صحيح يدل على فتح شيء وتشعبه ، فقوله : وتشعبه يدل على الكثرة . 
وقال يقال : اكتسى البازي ريشا نشرا ، أي : منتشرا واسعا طويلا ، ومعلوم أن ريش البازي كثير ، وهذا الوصف لا يتأتى من نفر قلائل في بادية ، بل لا يتأتى تحققه إلا من أهل القرى المستوطنين . ولعلنا في هذا قد أوضحنا هذه المسألة خاصة لهؤلاء الذين يقولون : إن الجمعة كالجماعة تصح من أي عدد في أي مكان على أية حالة كانوا ، وهو قول في الواقع لم يكن لهم فيه سلف ، وخالفوا به السلف والخلف ، مع ما في قولهم من هدم حكمة التشريع في إقامة الجمعة ، حيث إننا وجدنا حكمة الجماعة في العدد القليل ، ولأهل كل مسجد في كل ضاحية . 
ثم نأت الجمعة لأهل القرية والمصر ، ومن في ضواحيها على بعد خمسة أو ستة أميال ، كما قال المالكية ، وكما كان السلف يأتون إلى المدينة  زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فيه من تجمع للمسلمين على نطاق أوسع من نطاق الجماعة . 
ثم يأتي العيد وهو على نطاق أوسع فيشمل حتى النساء يحضرن ذلك اليوم ، ثم يأتي الحج يأتون إليه من كل فج عميق ، ولعل مما يشهد لهذا ويرد على من خالفه ، ما جاء في اجتماع العيد والجمعة ، إذ خيرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بين النزول إلى الجمعة ، و بين الاكتفاء بالعيد أي : أهل الضواحي . 
ثم أخبرهم بأنه سيصلي الجمعة ، فلو أن الجمعة تصح منهم في منازلهم وضواحيهم ; لأرشدهم إلى ذلك وأعفاهم من النزول سواء في يوم العيد الذي يكون في يوم الجمعة ، أو   [ ص: 182 ] في الجمعة من غير يوم العيد ، بل كانوا ينزلون من أطراف المدينة  كما هو معلوم ، والعلم عند الله تعالى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					