قوله تعالى : قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود   
قال أبو حيان    : وجواب القسم في قوله تعالى : والسماء ذات البروج  ، قيل : محذوف ، فقيل : لتبعثن ونحوه ، وقيل : مذكور ، فقيل : " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات    " [ 85 \ 10 ] ونحوه ، وقيل : " قتل " ، وهذا نختاره ، وحذفت اللام - أي لقتل -   [ ص: 481 ] وحسن حذفها كما حسن في قوله : والشمس وضحاها    [ 91 \ 1 ] ، ثم قال : قد أفلح من زكاها    [ 91 \ 9 ] ، أي : لقد أفلح ، ويكون الجواب دليلا على لعنة الله على من فعل ذلك ، وتنبيها لكفار قريش  الذين يؤذون المؤمنين ; ليفتنوهم عن دينهم . 
وإذا كان " قتل " هي الجواب فهي جملة خبرية ، وإذا كان الجواب غيرها فهي جملة إنشائية ، دعاء عليهم . 
وقرئ : " قتل " بالتشديد ، قرأها الحسن  وابن مقسم  ، وقرأها الجمهور بالتخفيف . اهـ . 
والأخدود : جمع خد ، وهو الشق في الأرض طويلا . وقوله : النار ذات الوقود  ، الوقود بالضم وبالفتح ، والقراءة بالفتح كالسحور ، والوضوء . فبالفتح : ما توقد به كصبور والماء المتوضأ به ، والطعام المتسحر به . وبالضم : المصدر والفعل ، والوقود بالضم : ما توقد به . 
ذكر صاحب القاموس ، و " النار ذات الوقود    " : بدل من الأخدود . 
وقيل في معناها عدة أقوال ، حتى قال أبو حيان    : كسلت عن نقلها . 
ونقل  الفخر الرازي  ثلاثة منها . 
والمشهور عند ابن كثير  ما رواه أحمد  ومسلم  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :   " كان فيمن كان قبلكم ملك ، وكان له ساحر ، فلما كبر الساحر قال للملك : إني قد كبر سني ، وحضر أجلي ، فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر ، فدفع إليه غلاما كان يعلمه السحر ، وكان بين الساحر والملك راهب ، فأتى الغلام الراهب ، فسمع من كلامه فأعجبه ، وكان إذا أتى الساحر ضربه ، وقال ما حبسك ؟ وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا : ما حبسك ؟ فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا أراد الساحر ضربك ، فقل : حبسني أهلي ، وإذا أراد أهلك أن يضربوك ، فقل : حبسني الساحر ، فبينما هو ذات يوم ، إذ أتى على دابة عظيمة فظيعة قد حبست الناس ، فلا يستطيعون أن يجوزوا ، فقال : اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر ؟ قال : فأخذ حجرا ، فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر ، فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس ، ورماها فقتلها ، ومضى الناس فأخبر الراهب بذلك ، فقال : أي بني ، أنت أفضل مني ، وإنك ستبتلى ، فإن ابتليت فلا   [ ص: 482 ] تدل علي ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم ، وكان للملك جليس أعمى فسمع به ، فأتاه بهدايا كثيرة ، فقال : اشفني . فقال : ما أنا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله - عز وجل - فإن آمنت به دعوت الله فشفاك ، فآمن ، فدعا الله فشفاه ، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس ، فقال له الملك : يا فلان ، من رد عليك بصرك ؟ فقال : ربي ، فقال : أنا . قال : لا ، ربي وربك الله ، قال : أولك رب غيري ؟ قال : نعم ، ربي وربك الله ، فلم يزل يعذبه حتى دله على الغلام ، فبعث إليه ، فقال : أي بني ، بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص ، وهذه الأدواء ، فقال : أما أنا لا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله - عز وجل - قال : أنا . قال : لا ، قال : أولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله ، فأخذه أيضا بالعذاب حتى دل على الراهب ، فأوتي بالراهب ، فقيل : ارجع عن دينك فأبى ، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه ، وقال للأعمى : ارجع عن دينك ، فأبى ، فوضع المنشار في مفرقه أيضا ، وقال للغلام : ارجع عن دينك ، فأبى ، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا ، وقال : إذا بلغتم ذروته ، فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه ، فذهبوا به فلما علوا به الجبل ، قال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون ، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك ، فقال : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله تعالى ، فبعث به نفرا إلى البحر في قرقور ، فقال : إذا لججتم به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا فأغرقوه ، فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فغرقوا هم ، وجاء الغلام حتى دخل على الملك ، فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : ما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد ، ثم تصلبني على جذع ، وتأخذ سهما من كنانتي ، ثم قل : بسم الله رب الغلام ، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني ، ففعل ، ووضع السهم في قوسه ورماه به في صدغه ، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ، فقيل للملك : أرأيت ما كنت تحذر ، فقد والله وقع بك ، قد آمن الناس كلهم ، فأمر بأفواه السكك ، فخدت فيها الأخاديد ، وأضرمت فيها النيران ، وقال : من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها ، قال : فكانوا يتعادون ويتدافعون ، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه ، فكأنها تقاعست أن تقع في النار ، فقال الصبي : اصبري يا أماه ; فإنك على الحق . وقد قيل : إن الغلام دفن فوجد زمن  عمر بن الخطاب  ويده على صدغه ، كلما رفعت خرج الدم من جرحه ، وإذا تركت أعيدت على الجرح "   . 
وقد سقنا هذه القصة ، وهي من أمثل ما جاء في هذا المعنى لما فيها من   [ ص: 483 ] العبر ، والتي يمكن أن يستفاد منها بعض الأحكام ، حيث إن ابن كثير  ، عزاها للإمام  أحمد بن حنبل  ومسلم  ، أي لصحة سندها مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الآتي : 
الأول : أن السحر بالتعلم  كما جاء في قصة الملكين ببابل  ، هاروت  وماروت  يعلمان الناس السحر . 
الثاني : إمكان اجتماع الخير مع الشر ، إذا كان الشخص جاهلا بحال الشر ، كاجتماع الإيمان مع الراهب مع تعلم السحر من الساحر . 
ثالثا : إجراء خوارق العادات على أيدي دعاة الخير  ، لبيان الحق ، والتثبيت في الأمر ، كما قال الغلام : اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر ؟
الرابع : أنه كان أميل بقلبه إلى أمر الراهب ، إذ قال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك ، فسأل عن أمر الراهب ولم يسل عن أمر الساحر ؟ 
الخامس : اعتراف العالم بالفضل لمن هو أفضل منه  ، كاعتراف الراهب للغلام . 
السادس : ابتلاء الدعاة إلى الله ووجوب الصبر على ذلك  ، وتفاوت درجات الناس في ذلك . 
السابع : إسناد الفعل كله لله ، إنما يشفي الله . 
الثامن : رفض الداعي إلى الله الأجر على عمله وهدايته : قل لا أسألكم عليه أجرا إن    [ 6 \ 90 ] . 
التاسع : بيان ركن أصيل في قضية التوسل  ، وهو أن مبناه على الإيمان بالله ، ثم الدعاء وسؤال الله تعالى . 
العاشر : غباوة الملك المشرك المغلق قلبه بظلام الشرك ، حيث ظن في نفسه أنه الذي شفى جليسه . وهو لم يفعل له شيئا ، وكيف يكون وهو لا يعلم ؟ 
الحادي عشر : اللجوء إلى العنف والبطش عند العجز عن الإقناع والإفهام أسلوب الجهلة والجبابرة . 
الثاني عشر : منتهى القسوة والغلظة في نشر الإنسان ، بدون هوادة . 
 [ ص: 484 ] الثالث عشر : منتهى الصبر وعدم الرجوع عن الدين  ، وهكذا كان في الأمم الأولى ، وبيان فضل الله على هذه الأمة  ، إذ جاز لها التلفظ بما يخالف عقيدتها وقلبها مطمئن بالإيمان . 
وقد جاء عن  الفخر الرازي  قوله : 
الآية تدل على أن المكره على الكفر بالإهلاك العظيم الأولى به أن يصبر على ما خوف منه ، وأن إظهار كلمة الكفر كالرخصة في ذلك ، وقال : وروى الحسن  أن مسيلمة  أخذ رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لأحدهما : تشهد أني رسول الله ؟ فقال : نعم ، فتركه ، وقال للآخر مثله ، فقال : لا ، بل أنت كذاب ، فقتله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما الذي ترك فأخذ بالرخصة فلا تبعة عليه ، وأما الذي قتل فأخذ بالأفضل فهنيئا له "   . 
وتقدم بحث هذه المسألة للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - . 
الرابع عشر : إجابة دعوة الغلام ونصرة الله لعباده المؤمنين : اللهم اكفنيهم بما شئت . 
الخامس عشر : التضحية بالنفس في سبيل نشر الدعوة  ، حيث دل الغلام الملك على الطريقة التي يتمكن الغلام بها من إقناع الناس بالإيمان بالله ، ولو كان الوصول لذلك على حياته هو . 
السادس عشر : إبقاء جسمه حتى زمن عمر    - رضي الله عنه - إكراما لأولياء الله والدعاة من أن تأكل الأرض أجسامهم . 
السابع عشر : إثبات دلالة القدرة على البعث . 
الثامن عشر : حياة الشهداء لوجود الدم وعودة اليد مكانها بحركة مقصودة . 
التاسع عشر : معرفة تلك القصة عند أهل مكة   حيث حدثوا بها تخويفا من عواقب أفعالهم بضعفة المؤمنين ، كما هو موضح في تمام القصة . 
العشرون : نطق الصبي الرضيع بالحق . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					