تنبيه 
بقي المجوس وجاءت السنة أنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب  لحديث : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب    " . 
وقوله تعالى : منفكين حتى تأتيهم البينة   ، اختلف في " منفكين " اختلافا كثيرا عند جميع المفسرين ، حتى قال  الفخر الرازي  عند أول هذه السورة ما نصه : قال الواحدي  في كتاب البسيط : هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظما وتفسيرا ، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء . 
ثم إنه رحمه الله لم يلخص كيفية الإشكال فيها . 
وأنا أقول وجه الإشكال : أن تقدير الآية : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة  ، التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا ، لكنه معلوم ، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه . 
فصار التقدير : لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة ، التي هي الرسول ، ثم قال بعد ذلك وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة  ، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام ، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية تناقض في الظاهر ، هذا منتهى الإشكال فيما أظن . ا هـ . حرفيا . 
وقد سقت كلامه لبيان مدى الإشكال في الآيتين ، وهو مبني على أن منفكين بمعنى تاركين : وعليه جميع المفسرين . 
والذي جاء عن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : أن منفكين أي :   [ ص: 42 ] مرتدعين عن الكفر والضلال ، حتى تأتيهم البينة ، أي : أتتهم . 
ولكن في منفكين ، وجه يرفع هذا الإشكال ، وهو أن تكون منفكين بمعنى متروكين لا بمعنى تاركين ، أي : لم يكونوا جميعا متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة على معنى قوله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى    [ 75 \ 36 ] ، وقوله : الم  أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون    [ 29 \ 1 - 2 ] ، أي : لن يتركوا وقريب منه قوله تعالى : قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك    [ 11 \ 53 ] . 
وقد حكى أبو حيان  قولا عن ابن عطية  قوله : ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى ، وذلك أن يكون المراد : لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم ، حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولا منذرا ، تقوم عليهم به الحجة ، ويتم على من آمن النعمة ، فكأنه قال : ما كانوا ليتركوا سدى ، ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى ا هـ . 
فقول ابن عطية  يتفق مع ما ذكرناه ، ويزيل الإشكال الكبير عن المفسرين ، كما أسلفنا . 
ولابن تيمية  رحمه الله قول في ذلك نسوقه لشموله ، وهو ضمن كلامه على هذه السورة في المجموع مجلد 61 ص 594 قال : 
وفي معنى قوله تعالى : لم يكن هؤلاء وهؤلاء منفكين . 
ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين . 
هل المراد : لم يكونوا منفكين عن الكفر ؟ 
أو هل لم يكونوا مكذبين بمحمد  حتى بعث ، فلم يكونوا منفكين من محمد  والتصديق بنبوته حتى بعث . 
أو المراد : أنهم لم يكونوا متروكين حتى يرسل إليهم رسول . 
وناقش تلك الأقوال وردها كلها ثم قال : فقوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب  والمشركين منفكين  ، أي : لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم يفعلون ما يهوونه   [ ص: 43 ] لا حجر عليهم ، كما أن المنفك لا حجر عليه ، وهو لم يقل مفكوكين ، بل قال : منفكين ، وهذا أحسن ، إلى أن قال : والمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون ولا ترسل إليهم رسل . 
والمعنى : أن الله لا يخليهم ولا يتركهم ، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولا ، وهذا كقوله : أيحسب الإنسان أن يترك سدى  ، لا يؤمر ، ولا ينهى ، أي : أيظن أن هذا يكون ؟ هذا ما لا يكون البتة ، بل لا بد أن يؤمر وينهى . 
وقريب من ذلك قوله تعالى : إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون  وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم  أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين    [ 43 \ 3 - 5 ] . وهذا استفهام إنكار أي : لأجل إسرافكم نترك إنزال الذكر ، ونعرض عن إرسال الرسل . 
تبين من ذلك كله أن الأصح في " منفكين " معنى " متروكين " وبه يزول الإشكال الذي أورده  الفخر الرازي  ، ويستقيم السياق ، ويتضح المعنى ، وبالله تعالى التوفيق . 
قوله تعالى : حتى تأتيهم البينة  رسول من الله يتلو صحفا مطهرة    . 
أجمل البينة ثم فصلها فيما بعدها رسول من الله يتلو صحفا    . 
وفي هذا قيل : إن البينة هي نفس الرسول في شخصه ، لما كانوا يعرفونه قبل مجيئه ، كما في قوله : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد    [ 61 \ 6 ] ، وقوله : يعرفونه كما يعرفون أبناءهم    [ 2 \ 146 ] . 
فكأن وجوده صلى الله عليه وسلم بذاته بينة لهم . 
ولذا جاء في الآثار الصحيحة أنهم عرفوا يوم مولده بظهور نجم نبي الختان إلى آخر أخباره صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، وكذلك المشركون كانوا يعرفونه عن طريق أهل الكتاب  ، وبما كان متصفا به صلى الله عليه وسلم ، ومن جميل الصفات كما قالت له  خديجة  عند بدء الوحي له وفزعه منه : " كلا والله لن يخزيك الله ، والله إنك لتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر   " إلى آخره . 
وقول عمه أبي طالب    : " والله ما رأيته لعب مع الصبيان ولا علمت عليه كذبة   " إلخ . وقد لقبوه بالأمين . 
 [ ص: 44 ] وحادثة شق الصدر في رضاعه ، بل وقيل ذلك في قصة أبيه عبد الله  ، لما تعرضت له المرأة تريده لنفسها ، فأبى . ولما تزوج ودخل بآمنة أم النبي  صلى الله عليه وسلم لقيها بعد ذلك ، فقالت له : لا حاجة لي بك ، فقال : وكيف كنت تتعرضين لي ؟ فقالت : رأيت نورا في وجهك ، فأحببت أن يكون لي ، فلما تزوجت وضعته في آمنة  ولم أره فيك الآن ، فلا حاجة لي فيك . 
فكلها دلائل على أنه صلى الله عليه وسلم كان في شخصه بينة لهم ، ثم أكرمه الله بالرسالة ، فكان رسولا يتلو صحفا مطهرة ، من الأباطيل والزيغ وما لا يليق بالقرآن . 
ومما استدل به لذلك قوله تعالى عنه : وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا    [ 33 \ 49 ] فعليه يكون " رسول من الله    " بدل من " البينة " مرفوع على البدلية ، أو أن البينة ما يأتيهم به الرسول مما يتلوه عليهم من الصحف المطهرة فيها كتب قيمة . 
فالتشريع الذي فيها والإخبار الذي أعلنه تكون البينة . وعلى كل ، فإن البينة تصدق على الجميع ، كما تصدق على المجموع ، ولا ينفك أحدهما عن الآخر ، فلا رسول إلا برسالة تتلى ، ولا رسالة تتلى إلا برسول يتلوها . 
وقد عرف لفظ البينة ، للإشارة إلى وجود علم عنها مسبق عليها . 
فكأنه قيل : حتى تأتيهم البينة الموصوفة لهم في كتبهم ، ويشير إليها ما قدمنا في أخبار عيسى  عليه السلام عنه ، وآخر سورة الفتح : ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه  الآية [ 48 \ 29 ] . 
قوله تعالى : فيها كتب    . 
جمع كتاب ، وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : كتب : بمعنى مكتوبات . 
وقال  ابن جرير    : في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة . يذكر القرآن بأحسن الذكر ، ويثني عليه بأحسن الثناء . 
وحكاه ابن كثير  واقتصر عليه . 
وقال القرطبي    : إن الكتب بمعنى الأحكام ، مستدلا بمثل قوله تعالى : كتب عليكم الصيام    [ 2 \ 183 ] وقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي    [ 58 \ 21 ] . 
 [ ص: 45 ] وقيل : الكتب القيمة : هي القرآن ، فجعله كتبا ; لأنه يشتمل على أبواب من البيان . 
وذكر  الفخر الرازي    : أنه يحتمل في كتب أي : الآيات المكتوبة في المصحف ، وهو قريب من قول الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه . 
وقال الشوكاني    : المراد : الآيات والأحكام المكتوبة فيها ، وهذه المعاني وإن كانت صحيحة ، إلا أن ظاهر اللفظ أدل على تضمن معنى كتب منه على معنى كتابة أحكام . 
والذي يظهر أن مدلول " كتب " على ظاهرها ، وهو تضمن تلك الصحف المطهرة لكتب سابقة قيمة ، كما ينص عليه قوله تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا  والآخرة خير وأبقى    [ 87 \ 16 - 17 ] ، ثم قال : إن هذا لفي الصحف الأولى  صحف إبراهيم وموسى    [ 87 \ 19 ] ، وكقوله في عموم الكتب الأولى : قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه    [ 46 \ 30 ] ، وقوله : نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل [ 3 \ 3 - 4 ] . 
ولذا قال : والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق    [ 6 \ 114 ] ، أي : بما فيه من كتبهم القيمة المتقدم إنزالها ، كما في قوله : ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم    [ 24 \ 34 ] . 
وقوله : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون    [ 27 \ 76 ] . 
وقال : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه    [ 6 \ 92 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، مما يدل على أن آي القرآن متضمنة كتبا قيمة مما أنزلت من قبل  ، وقد جاء عمليا في آية الرحمن ، وقوله : وكتبنا عليهم فيها  أي : في التوراة أن النفس بالنفس والعين بالعين  ، فهذه من الكتب القيمة التي تضمنها القرآن الكريم ، كما قال : ولكم في القصاص حياة    [ 2 \ 179 ] . 
ولعل هذا بين وجه المعنى فيما رواه المفسرون عن  الإمام أحمد  ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال  لأبي بن كعب    : " أمرت أن أقرأ عليك سورة البينة ، فقال : أوذكرت ثم ؟ "   . 
 [ ص: 46 ] وبكى رضي الله عنه ; لأن فيها زيادة طمأنينة له على إيمانه بأنه آمن بكتاب تضمن الكتب القيمة المتقدمة ، والتي يعرفها  عبد الله بن سلام  أن الرجم في التوراة لما غطاها الآتي بها ، كما هو معروف في القصة . والعلم عند الله تعالى . 
قوله تعالى : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة     . 
يلاحظ أن السورة في أولها عن الكفار عموما من أهل الكتاب  والمشركين معا ، وهنا الحديث عن أهل الكتاب  فقط ، وذلك مما يخصهم في هذا المقام دون المشركين ، وهو أنهم لأنهم أهل كتاب ، وعندهم علم به صلى الله عليه وسلم ، وبما سيأتي به ، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به    [ 2 \ 89 ] . 
وكقوله صراحة : وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم    [ 42 \ 14 ] ، فلمعرفتهم به قبل مجيئه ، واختلافهم فيه بعد مجيئه ، وخصهم هنا بالذكر في قوله : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة    . 
تنبيه 
مما يدل على ما ذكرنا من معنى " كتب قيمة    " ، أمران من كتاب الله : 
الأول منها : اختصاص أهل الكتاب  هنا بعدم عموم الحديث من الذين كفروا ، وما قدمنا من نصوص . 
الثاني : أن القرآن لما ذكر الرسول يتلو على المشركين قال : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته    [ 62 \ 2 ] ، فهذا نفس الأسلوب ، ولكن قال : " آياته " ; لأنهم لم يكن لهم علم بالكتب الأخرى ، فاقتصر على الآيات . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					