قوله تعالى : ثم لتسألن يومئذ عن النعيم     . 
أصل النعيم كل حال ناعمة من النعومة والليونة ، ضد الخشونة واليبوسة ، والشدائد ، كما يشير إليه قوله تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله    [ 16 \ 53 ] . 
ثم قال : إذا مسكم الضر فإليه تجأرون    [ 16 \ 53 ] ، فقابل النعمة بالضر . 
ومثله قوله تعالى : ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني    [ 11 \ 10 ] . 
وعلى هذا فإن نعم الله عديدة  ، كما قال : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها    [ 16 \ 18 ] . 
وبهذا تعلم أن كل ما قاله المفسرون ، فهو من قبيل التمثيل لا الحصر ، كما قال تعالى : لا تحصوها    . 
وأصول هذه النعم أولها الإسلام : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا    [ 5 \ 3 ] . 
ويدخل فيها نعم التشريع والتخفيف ، عما كان على الأمم الماضية . 
 [ ص: 84 ] كما يدخل فيها نعمة الإخاء في الله : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا    [ 3 \ 103 ] ، وغير ذلك كثير . 
وثانيها : الصحة ، وكمال الخلقة والعافية ، فمن كمال الخلقة الحواس ألم نجعل له عينين  ولسانا وشفتين    [ 90 \ 8 - 9 ] . 
ثم قال : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا    [ 17 \ 36 ] . 
وثالثها : المال في كسبه وإنفاقه سواء ، ففي كسبه من حله نعمة ، وفي إنفاقه في أوجهه نعمة . 
هذه أصول النعم ، فماذا يسأل عنه ، منها جاءت السنة بأنه سيسأل عن كل ذلك جملة وتفصيلا . 
أما عن الدين والمال والصحة ، ففي مجمل الحديث : " إذا كان يوم القيامة ، لا تزول قدم عبد حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيم أبلاه ، وعن علمه فيم عمل به ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن شبابه فيم أفناه   " . 
ولعظم هذه الآية وشمولها ، فإنها أصبحت من قبيل النصوص مضرب المثل ، فقد فصلت السنة جزئيات ما كانت تخطر ببال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . 
وقد أورد القرطبي  ما جاء في صحيح مسلم  عن  أبي هريرة  رضي الله عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة ، فإذا هو بأبي بكر  وعمر  ، فقال : " ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة ؟ " قالا : الجوع يا رسول الله ! قال : " وأنا ، والذي نفسي بيدها لأخرجني الذي أخرجكما ، قوموا " فقاموا معه ، فأتى رجلا من الأنصار  ، فإذا هو ليس في بيته ، فلما رأته المرأة قالت : مرحبا ! وأهلا ! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين فلان ؟ " قالت : ذهب يستعذب لنا من الماء أي يطلب ماء عذبا . إذ جاء الأنصاري ، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، ثم قال : الحمد لله ، ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني . قال : فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب ، فقال : كلوا من هذه ، وأخذ المدية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياك والحلوب ، فذبح لهم . فأكلوا من الشاة ، ومن ذلك العذق ، وشربوا ،   [ ص: 85 ] فلما أن شبعوا ورووا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر  وعمر    : " والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم   " وخرجه الترمذي    . 
وقال فيه : " هذا والذي نفسي بيده ، من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة  ، ظل بارد ورطب طيب ، وماء بارد   " وكنى الرجل الذي من الأنصار  فقال :  أبو الهيثم بن التيهان    . 
قال القرطبي    : قلت : اسم هذا الرجل مالك بن التيهان  ، ويكنى أبا الهيثم    . 
وقد ذكر ابن كثير  هذه القصة من عدة طرق . 
ومنها : عند أحمد  أن عمر  رضي الله عنه أخذ بالفرق وضرب به الأرض ، وقال : " إنا لمسئولون عن هذا يا رسول الله ؟ قال : نعم ، إلا من ثلاثة : خرقة لف الرجل بها عورته ، أو كسرة سد بها جوعته ، أو جحر يدخل فيه من الحر والقر   " . 
وقال  سفيان بن عيينة    : إن ما سد الجوع ، وستر العورة من خشن الطعام ، لا يسأل عنه المرء يوم القيامة ، وإنما يسأل عن النعيم ، والدليل عليه أن الله أسكن آدم  الجنة فقال له : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى  وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى    [ 20 \ 119 ] . 
فكانت هذه الأشياء الأربعة ما يسد به الجوع ، وما يدفع به العطش ، وما يسكن فيه من الحر ويستر به عورته ، لآدم  عليه السلام بالإطلاق ، لا حساب عليه فيها لأنه لا بد له منها . 
وذكر عن أحمد  أيضا بسنده " أنهم كانوا جلوسا فطلع عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أثر ماء ، فقلنا : 
يا رسول الله ، نراك طيب النفس ؟ 
قال : أجل ، قال : خاض الناس في ذكر الغنى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا بأس بالغنى لمن اتقى الله ، والصحة لمن اتقى الله خير من الغنى ، وطيب النفس من النعم   " . 
قال : ورواه  ابن ماجه  عن  أبي هريرة    . 
وبهذا ، فقد ثبت من الكتاب والسنة ، أن النعيم الذي هو محل السؤال يوم القيامة   [ ص: 86 ] عام في كل ما يتنعم به الإنسان في الدنيا ، حسا كان أو معنى . 
حتى قالوا : النوم مع العافية ، وقالوا : إن السؤال عام للكافر والمسلم ، فهو للكافر توبيخ وتقريع وحساب ، وللمؤمن تقرير بحسب شكر النعمة وجحودها وكيفية تصريفها . والعلم عند الله تعالى . 
وكل ذلك يراد منه الحث على شكر النعمة ، والإقرار للمنعم والقيام بحقه سبحانه فيها ، كما قال تعالى عن نبي الله : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين    [ 46 \ 15 ] . 
اللهم أوزعنا شكر نعمتك ، واجعل ما أنعمت به علينا عونا لنا على طاعتك . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					