المسألة الثانية عشرة : حرم المدينة   ، اعلم أن جماهير العلماء على أن المدينة  حرم أيضا لا ينفر صيدها ، ولا يختلى خلاها ، وخالف أبو حنيفة  الجمهور ، فقال : إن حرم المدينة  ليس بحرم على الحقيقة ، ولا تثبت له أحكام الحرم  من تحريم قتل الصيد ، وقطع الشجر  ، والأحاديث الصحيحة الصريحة ترد هذا القول ، وتقضي بأن ما بين لابتي المدينة  حرم ، ولا ينفر صيده ، ولا يختلى خلاه إلا لعلف  ، فمن ذلك حديث  عبد الله بن زيد بن عاصم  ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن إبراهيم  حرم مكة  ، وإني حرمت المدينة  كما حرم إبراهيم  مكة    " ، الحديث متفق عليه . 
وعن  أبي هريرة    - رضي الله عنه - قال : " حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين لابتي المدينة  ، وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة  حمى   " ، متفق عليه أيضا ، وكان  أبو هريرة  يقول : " لو رأيت الظباء ترتع في المدينة  ما ذعرتها " ، وعن  أبي هريرة  أيضا في المدينة  ، قال : " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرم شجرها أن يخبط أو يعضد   " ، رواه  الإمام أحمد    . وعن أنس    : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرف على المدينة  ، فقال : " اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم  مكة  ، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم " ، متفق عليه . 
 وللبخاري  عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " المدينة  حرام من كذا إلى كذا ، لا يقطع شجرها ، ولا يحدث فيها حدث ، من أحدث فيها فعليه لعنة الله والملائكة والناس   [ ص: 453 ] أجمعين   " ، ولمسلم  ، عن  عاصم الأحول  قال : سألت أنسا  ، أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة  ؟ فقال : نعم هي حرام ، لا يختلى خلاها   " ، الحديث . 
وعن  أبي سعيد الخدري    - رضي الله عنه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إني حرمت المدينة  ، حرام ما بين مأزميها ألا يهراق فيها دم ، ولا يحمل فيها سلاح ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف   " ، رواه مسلم    . 
وعن جابر    - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن إبراهيم  حرم مكة  ، وإني حرمت المدينة  ما بين لابتيها ، لا يقطع عضاهها ، ولا يصاد صيدها   " ، رواه مسلم  أيضا . 
وعن علي    - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " المدينة  حرام ما بين عير إلى ثور   " ، الحديث متفق عليه . 
وعن علي    - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة    " لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها ، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال ، ولا يصح أن تقطع فيها شجرة ، إلا أن يعلف رجل بعيره   " ، رواه أبو داود  بإسناد صحيح ، ورواه  الإمام أحمد    . 
وعن  سعد بن أبي وقاص    - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إني أحرم ما بين لابتي المدينة  أن يقطع عضاهها ، أو يقتل صيدها   " . 
وقال : " المدينة  خير لهم لو كانوا يعلمون ، لا يخرج عنها أحد رغبة إلا أبدل الله فيها من هو خير منه ، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شهيدا ، أو شفيعا يوم القيامة   " ، رواه مسلم    . 
وعن  رافع بن خديج    - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن إبراهيم  حرم مكة  ، وإني أحرم ما بين لابتيها   " رواه مسلم  أيضا . 
وعن  سهل بن حنيف    - رضي الله عنه - قال : أهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده إلى المدينة  ، فقال : " إنها حرم آمن   " ، رواه مسلم  في صحيحه أيضا . 
وعن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري  ، عن أبيه أبي سعيد    - رضي الله عنهما : أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إني حرمت ما بين لابتي المدينة  ، كما حرم إبراهيم  مكة    " . 
قال : وكان  أبو سعيد الخدري  يجد في يد أحدنا الطير ، فيأخذه فيفكه من يده ، ثم   [ ص: 454 ] يرسله ، رواه مسلم  في " صحيحه أيضا " ، وعن عبد الله بن عبادة الزرقي    : أنه كان يصيد العصافير في بئر إهاب ، وكانت لهم ، قال : فرآني عبادة  ، وقد أخذت عصفورا ، فانتزعه مني فأرسله ، وقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " حرم ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم - عليه السلام - مكة    " ، وكان عبادة  من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، رواه البيهقي    . 
وعن  إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف    - رضي الله عنه - قال : اصطدت طيرا بالقنبلة ، فخرجت به في يدي ، فلقيني أبي عبد الرحمن بن عوف  ، فقال : ما هذا في يدك ؟ ، فقلت : طير اصطدته بالقنبلة ، فعرك أذني عركا شديدا ، وانتزعه من يدي ، فأرسله ، فقال : " حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صيد ما بين لابتيها " ، رواه البيهقي  أيضا ، والقنبلة : آلة يصاد بها النهس وهو طائر . 
وعن  أبي أيوب الأنصاري    - رضي الله عنه : أنه وجد غلمانا قد ألجؤوا ثعلبا إلى زاوية فطردهم عنه ، قال مالك    : ولا أعلم إلا أنه قال : " أفي حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع هذا " ، رواه البيهقي  أيضا . 
وعن  زيد بن ثابت    - رضي الله عنه   " أنه وجد رجلا بالأسواف    - وهو موضع بالمدينة    - وقد اصطاد نهسا ، فأخذه زيد  من يده فأرسله ، ثم قال : أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم صيد ما بين لابتيها " ، رواه البيهقي  ، والرجل الذي اصطاد النهس هو شرحبيل بن سعد  ، والنهس بضم النون وفتح الهاء بعدهما سين مهملة ، طير صغير فوق العصفور شبيه بالقنبرة . 
والأحاديث في الباب كثيرة جدا ، ولا شك في أن النصوص الصحيحة الصريحة التي أوردنا في حرم المدينة  لا شك معها ، ولا لبس في أنها حرام ، لا ينفر صيدها ، لا يقطع شجرها ، ولا يختلى خلاها إلا لعلف ، وما احتج به بعض أهل العلم على أنها غير حرام من قوله - صلى الله عليه وسلم : " ما فعل النغير يا أبا عمير  ؟   " ، لا دليل فيه ; لأنه محتمل لأن يكون ذلك قبل تحريم المدينة   ، ومحتمل لأن يكون صيد في الحل ، ثم أدخل المدينة    . 
وقد استدل به بعض العلماء على جواز إمساك الصيد الذي صيد في الحل وإدخاله المدينة   ، وما كان محتملا لهذه الاحتمالات لا تعارض به النصوص الصريحة الصحيحة الكثيرة التي لا لبس فيها ولا احتمال ، فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن العلماء القائلين بحرمة المدينة  ، وهم جمهور علماء الأمة اختلفوا في صيد حرم المدينة  ، هل يضمنه قاتله أو لا ؟   [ ص: 455 ] وكذلك شجرها  ، فذهب كثير من العلماء ، منهم مالك  ،  والشافعي  في الجديد ، وأصحابهما ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد  ، وعليه أكثر أهل العلم إلى أنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام ، فلم يجب فيه جزاء كصيد وج    . 
واستدلوا أيضا بقوله - صلى الله عليه وسلم : " المدينة  حرم ما بين عير  وثور  ، فمن أحدث فيها حدثا ، أو آوى فيها محدثا ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا   " ، فذكره - صلى الله عليه وسلم - لهذا الوعيد الشديد في الآخرة ، ولم يذكر كفارة في الدنيا ، دليل على أنه لا كفارة تجب فيه في الدنيا ، وهو ظاهر . 
وقال  ابن أبي ذئب  ، وابن المنذر    : يجب في صيد الحرم المدني  الجزاء الواجب في صيد الحرم المكي  ، وهو قول  الشافعي  في القديم ، واستدل أهل هذا القول بأنه - صلى الله عليه وسلم - صرح في الأحاديث الصحيحة المتقدمة بأنه حرم المدينة  مثل تحريم إبراهيم  لمكة  ، ومماثلة تحريمها تقتضي استواءهما في جزاء من انتهك الحرمة فيهما . 
قال القرطبي  ، قال  القاضي عبد الوهاب    : وهذا القول أقيس عندي على أصولنا ; لاسيما أن المدينة  عند أصحابنا أفضل من مكة  ، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام    . اهـ . 
قال مقيده - عفا الله عنه : ومذهب الجمهور في تفضيل مكة   ، وكثرة مضاعفة الصلاة فيها زيادة على المدينة  بمائة ضعف أظهر لقيام الدليل عليه ، والله تعالى أعلم . 
وذهب بعض من قال بوجوب الجزاء في الحرم المدني  إلى أن الجزاء فيه هو أخذ سلب قاتل الصيد ، أو قاطع الشجر فيه . 
قال مقيده - عفا الله عنه : وهذا القول هو أقوى الأقوال دليلا ; لما رواه مسلم  في " صحيحه " عن  سعد بن أبي وقاص  رضي الله عنه : " أنه ركب إلى قصره بالعقيق  فوجد عبدا يقطع شجرا ، أو يخبطه ، فسلبه ، فلما رجع سعد  جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم ، فقال : معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى أن يرده عليهم " ، رواه مسلم  في " صحيحه " ، وأحمد    . 
وما ذكره القرطبي  في تفسيره - رحمه الله - من أن هذا الحكم خاص بسعد    - رضي الله عنه - مستدلا بأن قوله : " نفلنيه " أي أعطانيه ، ظاهر في الخصوص به دون غيره ، فيه عندي أمران : 
 [ ص: 456 ] الأول : أن هذا لا يكفي في الدلالة على الخصوص ; لأن الأصل استواء الناس في الأحكام الشرعية إلا بدليل ، وقوله " نفلنيه " ليس بدليل ; لاحتمال أنه نفل كل من وجد قاطع شجر ، أو قاتل صيد بالمدينة  ثيابه ، كما نفل سعدا  ، وهذا هو الظاهر . 
الثاني : أن سعدا  نفسه روي عنه تعميم الحكم ، وشموله لغيره ، فقد روى  الإمام أحمد  ، وأبو داود  عن سليمان بن أبي عبد الله  قال : " رأيت  سعد بن أبي وقاص  أخذ رجلا يصيد في حرم المدينة  الذي حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلبه ثيابه ، فجاء مواليه ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم هذا الحرم ، وقال : " من رأيتموه يصيد فيه شيئا فلكم سلبه " ; فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن إن شئتم أن أعطيكم ثمنه أعطيتكم   " ، وفي لفظ : " من أخذ أحدا يصيد فيه فليسلبه ثيابه   " ، وروى هذا الحديث أيضا الحاكم  وصححه ، وهو صريح في العموم وعدم الخصوص بسعد  كما ترى ، وفيه تفسير المراد بقوله : " نفلنيه " وأنه عام لكل من وجد أحدا يفعل فيها ذلك . 
وتضعيف بعضهم لهذا الحديث بأن في إسناده سليمان بن أبي عبد الله  غير مقبول ; لأن سليمان بن أبي عبد الله مقبول  ، قال فيه الذهبي    : تابعي موثق ، وقال فيه ابن حجر  في " التقريب " : مقبول . 
والمقبول عنده كما بينه في مقدمة تقريبه : هو من ليس له من الحديث إلا القليل ، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله ، فهو مقبول حيث يتابع ، وإلا فلين الحديث ، وقال فيه  ابن أبي حاتم    : ليس بمشهور ، ولكن يعتبر بحديثه . اهـ . 
وقد تابع سليمان بن أبي عبد الله  في هذا الحديث عامر بن سعد  عند مسلم  ، وأحمد  ، ومولى لسعد  ، عند أبي داود  ، كلهم عن سعد    - رضي الله عنه - فاتضح رد تضعيفه مع ما قدمنا من أن الحاكم  صححه ، وأن الذهبي  قال فيه : تابعي موثق . 
والمراد بسلب قاطع الشجر أو قاتل الصيد في المدينة  أخذ ثيابه  ، قال بعض العلماء : حتى سراويله . 
والظاهر ما ذكره بعض أهل العلم من وجوب ترك ما يستر العورة المغلظة ، والله تعالى أعلم . 
وقال بعض العلماء : السلب هنا سلب القاتل ، وفي مصرف هذا السلب ثلاثة أقوال : 
 [ ص: 457 ] أصحها : أنه للسالب كالقتيل ، ودليله حديث سعد  المذكور . 
والثاني : أنه لفقراء المدينة    . 
والثالث : أنه لبيت المال ، والحق الأول . 
وجمهور العلماء على أن حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم    - الذي تقدم في حديث  أبي هريرة  المتفق عليه ، أن قدره اثنا عشر ميلا من جهات المدينة  لا يجوز قطع شجره ، ولا خلاه ، كما رواه  جابر بن عبد الله  رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن يهش هشا رفيقا   " أخرجه أبو داود  والبيهقي  ، ولم يضعفه أبو داود  ، والمعروف عن أبي داود    - رحمه الله - أنه إن سكت عن الكلام في حديث فأقل درجاته عنده الحسن . 
وقال النووي  في " شرح المهذب " بعد أن ساق حديث جابر  المذكور : رواه أبو داود  بإسناد غير قوي لكنه لم يضعفه . اهـ ، ويعتضد هذا الحديث بما رواه البيهقي  بإسناده عن  محمد بن زياد  قال :   " كان جدي مولى  لعثمان بن مظعون  ، وكان يلي أرضا لعثمان  فيها بقل وقثاء ، قال : فربما أتاني  عمر بن الخطاب    - رضي الله عنه - نصف النهار ، واضعا ثوبه على رأسه يتعاهد الحمى ، ألا يعضد شجره ، ولا يخبط ، قال : فيجلس إلي فيحدثني ، وأطعمه من القثاء والبقل ، فقال له يوما : أراك لا تخرج من هاهنا ، قال : قلت : أجل ، قال : إني أستعملك على ما هاهنا فمن رأيت يعضد شجرا أو يخبط فخذ فأسه وحبله ، قال : قلت : آخذ رداءه ، قال : لا " وعامة العلماء على أن صيد الحمى المذكور غير حرام ; لأنه ليس بحرم ، وإنما هو حمى حماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للخيل وإبل الصدقة والجزية ، ونحو ذلك . 
واختلف في شجر الحمى ؛ هل يضمنه قاطعه ؟  والأكثرون على أنه لا ضمان فيه ، وأصح القولين عند الشافعية وجوب الضمان فيه بالقيمة ، ولا يسلب قاطعه ، وتصرف القيمة في مصرف نعم الزكاة والجزية . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					