[ ص: 509 ] مسائل تتعلق بهذا المبحث 
المسألة الأولى : قد قدمنا إجماع العلماء على وجوب الزكاة في التمر والزبيب  ، وجمهورهم على أنهما يخرصان إذا بدا صلاحهما ; لأن المالكين يحتاجون إلى أكل الرطب والعنب ; فبسبب ذلك شرع خرص التمر والعنب ، ويخرص كل واحد منهما شجرة شجرة ، حتى يعلم قدر ما في الجميع الآن من الأوساق ، ثم يسقط منه قدر ما ينقصه الجفاف ، فلو كان فيه خمسة أوسق من العنب أو الرطب ، وإذا جف كانت أربعة أوسق مثلا ، فلا زكاة فيه ; لأن النصاب معتبر من التمر والزبيب اليابسين ، لا من الرطب والعنب ، وإذا خرص على الوجه الذي ذكرنا خلى بين مالكيه وبينه ، وبعد الجذاذ يأتون بقدر الزكاة على الخرص المذكور تمرا أو زبيبا ، وبذلك يحصل الجمع بين الاحتياط للفقراء ، والرفق بأرباب الثمار ، فإن أصابته بعد الخرص جائحة ، اعتبرت ، وسقطت زكاة ما اجتاحته الجائحة  ، فإن بقي بعدها خمسة أوسق فصاعدا أخرج الزكاة ، وإلا فلا . ولا خلاف في اعتبار الجائحة بعد الخرص بين العلماء . 
وممن قال بخرص النخيل والأعناب    : الأئمة الثلاثة : مالك ،  والشافعي  ، وأحمد    - رحمهم الله تعالى -  وعمر بن الخطاب  ، وسهل بن أبي حثمة  ، ومروان  ،  والقاسم بن محمد  ، والحسن  ، وعطاء  ،  والزهري  ،  وعمرو بن دينار  ،  وعبد الكريم بن أبي المخارق  ، وأبو عبيد  ،  وأبو ثور  ، وأكثر أهل العلم كما نقله عنهم  ابن قدامة  في " المغني " ، وحكي عن  الشعبي    : أن الخرص بدعة ، ومنعه  الثوري  ، وقال أبو حنيفة  وأصحابه : الخرص ظن وتخمين لا يلزم به حكم ، وإنما كان الخرص تخويفا للقائمين على الثمار ; لئلا يخونوا ، فأما أن يلزم به حكم فلا . 
قال مقيده - عفا الله عنه : لا يخفى أن هذا القول تبطله نصوص السنة الصحيحة الصريحة ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في " صحيحيهما " من حديث  أبي حميد الساعدي    - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة " تبوك " فأتينا وادي القرى  على حديقة لامرأة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " اخرصوها " ، فخرصناها ، وخرصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة أوسق ، وقال : " أحصيها حتى نرجع إليك ، إن شاء الله " ، وانطلقنا حتى قدمنا تبوك  ، فذكر الحديث . 
قال : " ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى  ، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرأة عن حديقتها   [ ص: 510 ] كم بلغ ثمرها ؟ قالت : بلغ عشرة أوسق " ، فهذا الحديث المتفق عليه دليل واضح على مشروعية الخرص  ، كما ترى . 
وعن عتاب بن أسيد    - رضي الله عنه :   " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم " أخرجه أبو داود  ،  والترمذي  ،  وابن ماجه  ،  وابن حبان    . 
وعن عتاب    - رضي الله عنه - أيضا قال : " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص العنب ، كما يخرص النخل ، فتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا   " ، أخرجه أيضا أبو داود  ،  والترمذي  ،  والنسائي  ،  وابن حبان  ،  والدارقطني    . 
والتحقيق في حديث عتاب  هذا : أنه من مراسيل  سعيد بن المسيب    - رحمه الله تعالى ; لأنه لم يدرك عتابا    ; لأن مولد سعيد  في خلافة عمر  ، وعتاب  مات يوم مات أبو بكر    - رضي الله عنهما - وقد أثبت الحجة بمراسيل سعيد  كثير ممن يقولون بعدم الاحتجاج بالمرسل  ، وقال النووي  في " شرح المهذب " : إن من أصحابنا : من قال يحتج بمراسيل  ابن المسيب  مطلقا ، والأصح أنه إنما يحتج بمراسيله إذا اعتضدت بأحد أربعة أمور : أن يسند ، أو يرسل من جهة أخرى ، أو يقول به بعض الصحابة ، أو أكثر العلماء ، وقد وجد ذلك هنا ; فقد أجمع العلماء من الصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم على وجوب الزكاة في التمر ، والزبيب    . 
قال مقيده - عفا الله عنه : وبما ذكره النووي  تعلم اتفاق الشافعية على الاحتجاج بهذا المرسل ، والأئمة الثلاثة يحتجون بالمرسل مطلقا ، فظهر إجماع المذاهب الأربعة على الاحتجاج بمثل هذا المرسل ، وروى هذا الحديث  الدارقطني  بسند فيه  الواقدي  متصلا ، فقال عن  سعيد بن المسيب  ، عن  المسور بن مخرمة  ، عن عتاب بن أسيد    . 
وعن عائشة    - رضي الله عنها - قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث  عبد الله بن رواحة  ، فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه ، ثم يخير يهود يأخذونه بذلك الخرص ، أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص ; لكي يحصي الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق   " ، أخرجه أحمد  ، وأبو داود  ، وقد أعل بأن فيه واسطة بين  ابن جريج   والزهري  ، ولم يعرف ، وقد رواه عبد الرزاق   والدارقطني  بدون الواسطة المذكورة ،  وابن جريج  مدلس ; فلعله تركها تدليسا ، قاله ابن حجر  ، وقال ذكر  الدارقطني  الاختلاف فيه قال : فرواه  صالح بن أبي الأخضر  ، عن  الزهري  ، عن  ابن المسيب  ، عن  أبي هريرة  ، وأرسله معمر  ، ومالك  ، وعقيل    : فلم يذكروا أبا   [ ص: 511 ] هريرة  ، وأخرج أبو داود  من طريق  ابن جريج    : أخبرني أبو الزبير  أنه سمع جابرا  يقول : خرصها  ابن رواحة  أربعين ألف وسق . 
وقال ابن حجر  في " التلخيص " أيضا : روى أحمد  من حديث  ابن عمر    : " أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث  عبد الله بن رواحة  إلى خيبر  يخرص عليهم   " ، الحديث . 
وروى أبو داود   والدارقطني  من حديث جابر    : " لما فتح الله على رسوله خيبر  أقرهم ، وجعلها بينه وبينهم ، فبعث  عبد الله بن رواحة  فخرصها عليهم   " ، الحديث ، ورواه  ابن ماجه  من حديث  ابن عباس    . 
وروى  الدارقطني  عن سهل بن أبي حثمة    : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أباه خارصا ، فجاء رجل فقال : يا رسول الله ، إن أبا حثمة  قد زاد علي   " الحديث ، ثم ذكر ابن حجر  حديث عتاب  ، وحديث عائشة  اللذين قدمناهما ، ثم قال وفي الصحابة ، لأبي نعيم  من طريق الصلت بن زبيد بن الصلت  ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمله على الخرص ، فقال : " أثبت لنا النصف ، وأبق لهم النصف ، فإنهم يسرقون ، ولا نصل إليهم "   . 
فبهذا الذي ذكرنا كله تعلم أن الخرص حكم ثابت عن رسول الله    - صلى الله عليه وسلم - لا ظن وتخمين باطل ، بل هو اجتهاد ورد به الشرع في معرفة قدر الثمر ، وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير ، فهو كتقويم المتلفات ، ووقت الخرص  حين يبدو صلاح الثمر ، كما قدمنا لما قدمنا من الرواية : " بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث الخارص ، فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل   " ، ولا خلاف في ذلك بين العلماء . 
والجمهور القائلون بالخرص اختلفوا في حكمه ، فقيل : هو سنة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر به ، وقيل : واجب ; لما تقدم في حديث عتاب  من قوله : " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص العنب   " ، الحديث المتقدم ، قالوا : الأمر للوجوب ، ولأنه إن ترك الخرص قد يضيع شيء من حق الفقراء ، والأظهر عدم الوجوب ; لأن الحكم بأن هذا الأمر واجب يستوجب تركه العقاب يحتاج إلى دليل ظاهر قوي ، والله تعالى أعلم . 
واختلف العلماء القائلون بالخرص ، هل على الخارص أن يترك شيئا  ؟ ، فقال بعض العلماء : عليه أن يترك الثلث أو الربع ، لما رواه الإمام أحمد  ، وأصحاب السنن إلا  ابن ماجه  ،  وابن حبان  ، والحاكم  ، وصححاه عن سهل بن أبي حثمة    - رضي الله عنه - قال : قال   [ ص: 512 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إذا خرصتم فخذوا ، ودعوا الثلث ، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع   " ، فإن قيل في إسناده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار الراوي  ، عن سهل بن أبي حثمة  ، وقد قال البزار    : إنه انفرد به ، وقال  ابن القطان    : لا يعرف حاله ، فالجواب : أن له شاهدا بإسناد متفق على صحته : " أن  عمر بن الخطاب  أمر به ، قاله الحاكم  ، ومن شواهده : ما رواه  ابن عبد البر  عن جابر  مرفوعا : " خففوا في الخرص   " ، الحديث ، وفي إسناده  ابن لهيعة    . 
وممن قال بهذا القول الإمام أحمد  ، وإسحاق  ، والليث  ، وأبو عبيد  ، وغيرهم ، ومشهور مذهب مالك  ، والصحيح في مذهب  الشافعي    : أن الخارص لا يترك شيئا . 
قال مقيده - عفا الله عنه : والقول بأنه يترك الثلث أو الربع هو الصواب ; لثبوت الحديث الذي صححه  ابن حبان  ، والحاكم  بذلك ، ولم يثبت ما يعارضه ; ولأن الناس يحتاجون إلى أن يأكلوا ويطعموا جيرانهم ، وضيوفهم ، وأصدقاءهم ، وسؤالهم ; ولأن بعض الثمر يتساقط ، وتنتابه الطير ، وتأكل منه المارة ، فإن لم يترك لهم الخارص شيئا ، فالظاهر أن لهم الأكل بقدر ما كان يلزم إسقاطه ، ولا يحسب عليهم . 
وهذا مذهب  الإمام أحمد    - رحمه الله - وهو مقتضى ما دل عليه الحديث المذكور ، فإن زاد الثمر أو نقص عما خرصه به الخارص ، فقال بعض العلماء : لا زكاة عليه فيما زاد ، وتلزمه فيما نقص ; لأنه حكم مضى . 
وقال بعضهم : يندب الإخراج في الزائد ، ولا تسقط عنه زكاة ما نقص . 
قال مقيده - عفا الله عنه ، أما فيما بينه وبين الله ، فلا شك أنه لا تجب عليه زكاة شيء لم يوجد ، وأما فيما بينه وبين الناس ، فإنها قد تجب عليه ، قال خليل بن إسحاق المالكي  في " مختصره " : وإن زادت على تخريص عارف فالأحب الإخراج ، وهل على ظاهره أو الوجوب ؟ تأويلان . 
قال شارحه المواق من المدونة : قال مالك    : من خرص عليه أربعة أوسق فرفع خمسة أوسق أحببت له أن يزكي ابن يونس  ، قال بعض شيوخنا : لفظة أحببت ها هنا على الإيجاب ، وهو صواب كالحاكم  يحكم بحكم ، ثم يظهر أنه خطأ صراح .  ابن عرفة  ، على هذا حملها الأكثر ، وحملها ابن رشيد  ، وعياض  على الاستحباب . 
قال مقيده - عفا الله عنه : ووجوب الزكاة في الزائد هو الأظهر ، وعليه أكثر المالكية ، وهو الصحيح عند الشافعية ، وأما النقص : فإذا ثبت ببينة أنها نقصت عما خرصت به ،   [ ص: 513 ] فالظاهر أنه تسقط عنه زكاة ما نقصت به ، وإن ادعى غلط الخارص    . 
فقد قال بعض أهل العلم : لم تقبل دعواه لأن الخارص أمين ، وقال بعض العلماء : تقبل دعواه غلط الخارص ، إذا كانت مشبهة ، أما إذا كانت بعيدة ، كدعواه زيادة النصف أو الثلثين ، فلا يقبل قوله في الجميع ، وهذا التفصيل هو مذهب  الشافعي  ، وأحمد  ، إلا أن بعض الشافعية قال : يسقط عنه من الكثير الذي ادعى قدر النقص الذي تقبل دعواه فيه ، وأما إن ادعى أن الخارص جار عليه عمدا ، فلا تقبل دعواه عليه بلا خلاف ، كما لو ادعى جور الحاكم ، أو كذب الشاهد ، وكذا إذا ادعى أنه غلط في الخرص ، ولم يبين قدر ما زاد لم يقبل منه ، نص عليه علماء الشافعية ، وإن ادعى رب الثمر : أنه أصابته جائحة أذهبت بعضه  ، فالظاهر تصديقه فيما يشبه قوله ، كما لو ادعى أن بعضه سرق بالليل مثلا قيل بيمين . 
وقيل : لا ، وإن أضاف هلاك الثمرة إلى سبب يكذبه الحس ، كأن يقول : هلكت بحريق ، وقع في الجرين في وقت كذا ، وعلمنا أنه لم يحترق في ذلك الوقت لم يلتفت إلى كلامه ، فإن علم وقوع السبب الذي ذكر ، وعموم أثره صدق بلا يمين ، وإن اتهم حلف ، قيل : وجوبا ، وقيل : استحبابا ، وإن لم يعرف عدم السبب المذكور ولا وجوده ، فالصحيح أنه يكلف بالبينة على وجود أصل السبب ، ثم القول قوله في الهلاك به ، وهذا التفصيل الأخير للشافعية ذكره النووي  في شرح المهذب ، ووجهه ظاهر ، والله تعالى أعلم . 
وجمهور العلماء على أنه لا يخرص غير التمر  ، والزبيب ، فلا يخرص الزيتون ، والزرع ، ولا غيرهما ، وأجازه بعض العلماء في الزيتون ، وأجازه بعضهم في سائر الحبوب . 
والصحيح أنه لا يجوز إلا في التمر ، والعنب لثلاثة أمور : 
الأول : أن النص الدال على الخرص لم يرد إلا فيهما كما تقدم في حديث عتاب بن أسيد  ، وغيره من الأحاديث . 
الثاني : أن غيرهما ليس في معناهما ; لأن الحاجة تدعو غالبا إلى أكل الرطب قبل أن يكون تمرا ، والعنب قبل أن يكون زبيبا ، وليس غيرهما كذلك . 
الثالث : أن ثمرة النخل ظاهرة مجتمعة في عذوقها ، والعنب ظاهر أيضا مجتمع في عناقيده ، فحرزهما ممكن ، بخلاف غيرهما من الحبوب ، فإنه متفرق في شجره ، والزرع مستتر في سنبله . 
 [ ص: 514 ] والظاهر أن ما جرت العادة بالحاجة إلى أكله لا يحسب ; لما قدمنا ، وقال المالكية : يحسب عليهم كلما أكلوه من الحب ، ولا يحسب ما تأكله الدواب في درسها . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					