تنبيه . 
 [ ص: 301 ] اعلم أن ما يزعمه بعض من لا علم عنده : من أن الكتاب والسنة دلا على اتخاذ القبور مساجد  ، يعني بالكتاب قوله تعالى : قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا    [ 18 \ 21 ] ، ويعني بالسنة ما ثبت في الصحيح من أن : موضع مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان فيه قبور المشركين ، في غاية السقوط ، وقائله من أجهل خلق الله . 
أما الجواب عن الاستدلال بالآية فهو أن تقول : من هؤلاء القوم الذين قالوا : " لنتخذن عليهم مسجدا    " ؟ أهم ممن يقتدى به ؟ أم هم كفرة لا يجوز الاقتداء بهم ؟ ، وقد قال  أبو جعفر بن جرير الطبري    - رحمه الله تعالى - في هؤلاء القوم [ 18 \ 21 ] ، ما نصه : " وقد اختلف في قائل هذه المقالة ، أهم الرهط المسلمون أم هم الكفار ؟ فإذا علمت ذلك فاعلم أنهم على القول بأنهم كفار فلا إشكال في أن فعلهم ليس بحجة ; إذ لم يقل أحد بالاحتجاج بأفعال الكفار كما هو ضروري . وعلى القول : بأنهم مسلمون كما يدل له ذكر المسجد ; لأن اتخاذ المساجد من صفات المسلمين ، فلا يخفى على أدنى عاقل أن قول قوم من المسلمين في القرون الماضية : إنهم سيفعلون كذا ، لا يعارض به النصوص الصحيحة الصريحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من طمس الله بصيرته فقابل قولهم : لنتخذن عليهم مسجدا    [ 18 \ 21 ] بقوله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى بخمس : " لعن الله اليهود  والنصارى    ; اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد   " . الحديث . يظهر لك أن من اتبع هؤلاء القوم في اتخاذهم المسجد على القبور ، ملعون على لسان الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - كما هو واضح ، ومن كان ملعونا على لسانه - صلى الله عليه وسلم - ، فهو ملعون في كتاب الله كما صح عن  ابن مسعود    - رضي الله عنه - ; لأن الله يقول : وما آتاكم الرسول فخذوه    [ 59 \ 7 ] ; ولهذا صرح  ابن مسعود    - رضي الله عنه - : بأن الواصلة والواشمة ومن ذكر معهما في الحديث ، كل واحدة منهن ملعونة في كتاب الله . وقال للمرأة التي قالت له : قرأت ما بين الدفتين فلم أجد ، إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه ، ثم تلا الآية الكريمة ، وحديثه مشهور في الصحيحين وغيرهما ، وبه تعلم أن من اتخذ المساجد على القبور ملعون في كتاب الله - جل وعلا - على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا دليل في آية : لنتخذن عليهم مسجدا    [ 18 \ 21 ] . 
وأما الاستدلال : بأن مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة  مبني في محل مقابر المشركين  فسقوطه ظاهر ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بها فنبشت وأزيل ما فيها . ففي الصحيحين من حديث أنس    - رضي   [ ص: 302 ] الله عنه - : " فكان فيه ما أقول لكم : قبور المشركين ، وفيه خرب ، وفيه نخل ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين ، فنبشت ، ثم بالخرب فسويت ، وبالنخل فقطع ، فصفوا النخل قبلة المسجد ، وجعلوا عضادتيه الحجارة   . . . . . " . الحديث . هذا لفظ  البخاري    . ولفظ مسلم  قريب منه بمعناه . فقبور المشركين لا حرمة لها    ; ولذلك أمر - صلى الله عليه وسلم - بنبشها وإزالة ما فيها . فصار الموضع كأن لم يكن فيه قبر أصلا لإزالته بالكلية . وهو واضح كما ترى ا هـ . 
والتحقيق الذي لا شك فيه : أنه لا يجوز البناء على القبور ولا تجصيصها . كما رواه مسلم  في صحيحه ، وغيره عن أبي الهياج الأسدي    : أن عليا    - رضي الله عنه - قال له : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; ألا تدع تمثالا إلا طمسته ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته   " . 
ولما ثبت في صحيح مسلم  وغيره أيضا عن جابر    - رضي الله عنه - قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر ، وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه   " . 
فهذا النهي ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال : " وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه   " . وقال - جل وعلا - : وما نهاكم عنه فانتهوا    . 
وقد تبين مما ذكرنا حكم الصلاة في مواضع الخسف ، وفي المقبرة ، وإلى القبر ، وفي الحمام . 
وأما أعطان الإبل : فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا النهي عن الصلاة فيها ، فقد أخرج مسلم  في صحيحه من حديث  جابر بن سمرة    - رضي الله عنه - : أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أأتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : " إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا توضأ " ، قال : أتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : " نعم ; توضأ من لحوم الإبل " . قال : أصلي في مرابض الغنم ؟ قال : " نعم " ، قال : أصلي في " مبارك الإبل " : قال " لا "   . هذا لفظ مسلم  في صحيحه . 
وأخرج  الإمام أحمد   والترمذي  وصححه ،  وابن ماجه  من حديث  أبي هريرة    - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " صلوا في مرابض الغنم ، ولا تصلوا في أعطان الإبل   " . 
وأخرج  النسائي  ، والبيهقي  ،  وابن ماجه  ، من حديث  عبد الله بن مغفل    - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في أعطان الإبل    . 
وقال النووي  في ( شرح المهذب ) : إن الإسناد الذي أخرجه به البيهقي  حسن . وأخرج أبو داود  في سننه في ( باب الوضوء من لحوم الإبل ) ، وفي ( باب النهي عن الصلاة في مبارك   [ ص: 303 ] الإبل ) ، عن  البراء بن عازب    - رضي الله عنه - قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في مبارك الإبل ، فقال : " لا تصلوا في مبارك الإبل ; فإنها من الشياطين " ، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم ، فقال : " صلوا فيها ; فإنها بركة   " . 
وأخرج  ابن ماجه  ، عن  عبد الله بن عمرو  ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " صلوا في مراح الغنم ; ولا تصلوا في معاطن الإبل   " . 
وأخرج  ابن ماجه  ، عن سبرة بن معبد الجهني    - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يصلى في أعطان الإبل ، ويصلى في مراح الغنم   " . 
وترجم  البخاري    - رحمه الله - في صحيحه لهذه المسألة ، فقال : ( باب الصلاة في مواضع الإبل ) ، ثم قال : حدثنا  صدقة بن الفضل  ، قال : أخبرنا  سليمان بن حيان  ، قال : حدثنا عبيد الله عن نافع  ، قال : رأيت  ابن عمر  يصلي إلى بعيره ، وقال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله   . 
وقال ابن حجر  في الفتح في الكلام على هذه الترجمة ، التي لم يأت  البخاري  بحديث يطابقها ما نصه : كأنه يشير إلى أن الأحاديث الواردة في التفرقة بين الإبل والغنم ليست على شرطه ، ولكن لها طرق قوية ، منها حديث  جابر بن سمرة  عند مسلم  ، وحديث  البراء بن عازب  عند أبي داود  ، وحديث  أبي هريرة  عند الترمذي  ، وحديث  عبد الله بن مغفل  عند  النسائي  ، وحديث سبرة بن معبد  عند  ابن ماجه  ، وفي معظمها التعبير بمعاطن الإبل . ووقع في حديث  جابر بن سمرة  والبراء    : " مبارك الإبل " ، ومثله في حديث سليك  عند  الطبراني  ، وفي حديث سبرة  ، وكذا في حديث  أبي هريرة  عند الترمذي    : " أعطان الإبل " . وفي حديث  أسيد بن حضير  عند  الطبراني    : " مناخ الإبل " ، وفي حديث  عبد الله بن عمرو  ، عند أحمد    : " مرابد الإبل " فعبر المصنف بالمواضع لأنها أشمل ، والمعاطن أخص من المواضع ; لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء خاصة . 
وقد ذهب بعضهم إلى أن النهي خاص بالمعاطن دون غيرها من الأماكن التي تكون فيها الإبل . وقيل مأواها مطلقا ، نقله صاحب المغني عن أحمد    . ا هـ كلام ابن حجر    . 
وقال  ابن حزم    : إن أحاديث النهي عن الصلاة في أعطان الإبل متواترة بنقل تواتر يوجب العلم . 
فإذا علمت ذلك ; فاعلم أن العلماء اختلفوا في صحة الصلاة في أعطان الإبل . 
فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنها لا تصح فيها ، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد  ، وعليه جل أصحابه . 
 [ ص: 304 ] قال صاحب ( الإنصاف ) : هذا المذهب وعليه الأصحاب . وفي الفروع هو أشهر وأصح في المذهب . وقال المصنف وغيره : هذا ظاهر المذهب وهو من المفردات . 
وممن قال بهذا القول (  ابن حزم    ) . 
وذهب جمهور أهل العلم إلى أن النهي للكراهة ، وأنه لو صلى فيها لصحت صلاته . وقد قدمنا كلام أهل الأصول في مثل هذه المسألة . 
واعلم أن العلماء اختلفوا في علة النهي عن الصلاة في أعطان الإبل    . 
فقيل : لأنها خلقت من الشياطين ، كما تقدم في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا هو الصحيح في التعليل ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تصلوا في مبارك الإبل ; فإنها خلقت من الشياطين   " ، وترتيبه كونها خلقت من الشياطين بالفاء على النهي ، يدل على أنه هو علته كما تقرر في مبحث مسلك النص ، ومسلك الإيماء والتنبيه . 
وقال جماعة من أهل العلم : معنى كونها : " خلقت من الشياطين " ، أنها ربما نفرت وهو في الصلاة فتؤدي إلى قطع صلاته ، أو أذاه ، أو تشويش خاطره . وقد قدمنا أن كل عات متمرد تسميه العرب شيطانا . والإبل إذا نفرت فهي عاتية متمردة ، فتسميتها باسم الشياطين مطابق للغة العرب . 
والعرب تقول : خلق من كذا للمبالغة ، كما يقولون : خلق هذا من الكرم ، ومنه قوله : خلق الإنسان من عجل    [ 21 \ 37 ] ، على أصح التفسيرين . 
وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في معاطنها ، وبين غيبتها عنها ; إذ يؤمن نفورها حينئذ . 
قال الشوكاني  في ( نيل الأوطار ) : ويرشد إلى صحة هذا حديث ابن مغفل  عند أحمد  بإسناد صحيح بلفظ : " لا تصلوا في أعطان الإبل ; فإنها خلقت من الجن ، ألا ترون إلى عيونها وهيئاتها إذا نفرت   " . 
وقد يحتمل أن علة النهي أن يجاء بها إلى معاطنها بعد شروعه في الصلاة فيقطعها ، أو يستمر فيها مع شغل خاطره ، ا هــ كلام الشوكاني    . 
ومن هذا التعليل المنصوص ; فهم العلماء القائلون بعدم بطلانها أنه : لما كانت علة النهي ما ذكر ; دل ذلك على أن الصلاة إذا فعلها تامة أنها غير باطلة . 
 [ ص: 305 ] وقيل : العلة أن أصحاب الإبل يتغوطون في مباركها بخلاف أهل الغنم . 
وقيل : العلة أن الناقة تحيض ، والجمل يمني . 
وكلها تعليلات لا معول عليها . والصحيح التعليل المنصوص عنه - صلى الله عليه وسلم - بأنها خلقت من الشياطين . والعلم عند الله تعالى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					