قوله تعالى : وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا     . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أهلك كثيرا من القرون من بعد نوح    ; لأن لفظة كم في قوله : وكم أهلكنا    [ 17 \ 17 ] خبرية ، معناها الإخبار بعدد كثير ، وأنه جل وعلا خبير بصير بذنوب عباده ، وأكد ذلك بقوله : وكفى بربك  الآية [ 17 \ 17 ] . 
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة أوضحته آيات أخر من أربع جهات : 
الأولى : أن في الآية تهديدا لكفار مكة  ، وتخويفا لهم من أن ينزل بهم ما نزل بغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها ; أي أهلكنا قرونا كثيرة من بعد نوح  بسبب تكذيبهم الرسل ، فلا تكذبوا رسولنا لئلا نفعل بكم مثل ما فعلنا بهم . 
والآيات التي أوضحت هذا المعنى كثيرة ; كقوله في قوم لوط    : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين  وبالليل أفلا تعقلون    [ 37 \ 137 - 138 ] ، وكقوله فيهم أيضا : إن في ذلك لآيات للمتوسمين  وإنها لبسبيل مقيم    [ 15 \ 75 ، 76 ] ، وقوله فيهم أيضا : ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون    [ 29 \ 35 ] ، وقوله : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها    [ 47 \ 10 ] ، وقوله بعد ذكره جل وعلا إهلاكه لقوم نوح   ، وقوم هود   ، وقوم   [ ص: 80 ] صالح   ، وقوم لوط   ، وقوم شعيب   في سورة الشعراء : إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين    [ 26 \ 8 ] ، وقوله في قوم موسى    : إن في ذلك لعبرة لمن يخشى    [ 79 \ 26 ] ، وقوله : إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة  ، وقوله : أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم  الآية [ 44 \ 37 ] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة عل تخويفهم بما وقع لمن قبلهم . 
الجهة الثانية : أن هذه القرون تعرضت لبيانها آيات أخر ; فبينت كيفية إهلاك قوم نوح   ، وقوم هود   ، وقوم صالح   ، وقوم لوط   ، وقوم شعيب   ، وفرعون  وقومه من قوم موسى  ، وذلك مذكور في مواضع متعددة معلومة من كتاب الله تعالى ، وبين أن تلك القرون كثيرة في قوله : وعادا  وثمودا  وأصحاب الرس  وقرونا بين ذلك كثيرا [ 25 \ 38 ] وبين في موضع آخر : أن منها ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا ، وذلك في قوله في سورة إبراهيم : ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله  الآية [ 14 \ 9 ] . وبين في موضعين آخرين أن رسلهم منهم من قص خبره على نبينا صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من لم يقصصه عليه ، وهما قوله في سورة النساء : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما    [ 4 \ 164 ] ، وقوله في سورة المؤمن : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله  الآية [ 40 \ 78 ] . 
الجهة الثالثة : أن قوله : من بعد نوح    [ 17 \ 17 ] يدل على أن القرون التي كانت بين آدم  ونوح  أنها على الإسلام ، كما قال  ابن عباس    : كانت بين آدم  ونوح  عشرة قرون ، كلهم على الإسلام   . نقله عنه ابن كثير  في تفسير هذه الآية . 
وهذا المعنى تدل عليه آيات أخر ، كقوله : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين  الآية [ 2 \ 213 ] ، وقوله : وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا  الآية [ 10 \ 19 ] ; لأن معنى ذلك على أصح الأقوال أنهم كانوا على طريق الإسلام ، حتى وقع ما وقع من قوم نوح  من الكفر ، فبعث الله النبيين ينهون عن ذلك الكفر ، مبشرين من أطاعهم بالجنة ، ومنذرين من عصاهم بالنار ، وأولهم في ذلك نوح  عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام . 
 [ ص: 81 ] ويدل على هذا قوله : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده  الآية [ 4 \ 163 ] . وفي أحاديث الشفاعة الثابتة في الصحاح وغيرها أنهم يقولون لنوح    : إنه أول رسول بعثه الله لأهل الأرض  كما قدمنا ذلك في سورة البقرة . 
الجهة الرابعة أن قوله : وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا    [ 17 \ 17 ] فيه أعظم زجر عن ارتكاب ما لا يرضي الله تعالى . 
والآيات الموضحة لذلك كثيرة جدا ; كقوله : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد    [ 50 \ 16 ] وقوله : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور    [ 11 \ 5 ] ، وقوله : واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه    [ 2 \ 235 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . 
وقد قدمنا هذا المبحث موضحا في أول سورة هود . ولفظة " كم " في هذه الآية الكريمة في محل نصب مفعول به لـ " أهلكنا " و من في قوله : من القرون بيان لقوله : كم وتمييز له كما يميز العدد بالجنس . وأما لفظه " من " في قوله : من بعد نوح  ، فالظاهر أنها لابتداء الغاية ، وهو الذي اختاره أبو حيان  في " البحر " ، وزعم الحوفي  أن " من " الثانية بدل من الأولى ، ورده عليه أبو حيان  ، والعلم عند الله تعالى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					