( فمنها سحر أهل بابل     ) الذين ذكرهم الله تعالى في قوله : يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت    ( 2 : 102 ) وكانوا قوما صابئين يعبدون الكواكب ويسمونها آلهة ، ويعتقدون أن حوادث العالم كلها من أفعالها ، وهم معطلة لا يعترفون بالصانع الواحد المبدع للكواكب وجميع أجرام العالم ، وهم الذين بعث الله تعالى إليهم إبراهيم  خليله صلوات الله عليه فدعاهم إلى الله تعالى وحاجهم بالحجاج الذي بهرهم به ، وأقام عليهم به الحجة من حيث لم يمكنهم دفعه ، ثم ألقوه في النار فجعلها الله بردا وسلاما ، ثم أمره الله تعالى بالهجرة إلى الشام  ، وكان أهل بابل   وإقليم العراق  والشام  ومصر  والروم  على هذه المقالة إلى أيام بيوراسب  الذي تسميه العرب الضحاك  ، وأن أفريدون  وكان من أهل دنياوند  استجاش عليه بلاده ، وكاتب سائر من يطيعه ، وله قصص طويلة حتى أزال ملكه وأسره ، وجهال العامة والنساء عندنا يزعمون أن أفريدون  حبس بيوراسب  في جبل دنياوند  العالي على الجبال ، وأنه حي هناك مقيد ، وأن السحرة يأتونه هناك فيأخذون عنه السحر ، وأنه سيخرج فيغلب على الأرض ، وأنه هو الدجال الذي أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحذرناه ، وأحسبهم أخذوا ذلك عن المجوس ، وصارت مملكة إقليم بابل  للفرس  ، فانتقل بعض ملوكهم إليها في بعض الأزمان فاستوطنوها ، ولم يكونوا عبدة أوثان ، بل كانوا موحدين مقرين بالله وحده ، إلا أنهم مع ذلك يعظمون العناصر الأربعة : الماء ، والنار ، والأرض ، والهواء ؛ لما فيها من منافع الخلق ، وأن بها قوام الحيوان ، وإنما حدثت المجوسية فيهم بعد ذلك في زمان كشتاسب  حين دعاه زرادشت  فاستجاب له على شرائط يطول شرحها ، وإنما غرضنا في هذا الموضع الإبانة عما كانت عليه سحرة بابل  ، ولما ظهر الفرس  على هذه الإقليم كانت   [ ص: 45 ] تتدين بقتل السحرة وإبادتها ، ولم يزل ذلك فيهم من دينهم بعد حدوث المجوسية فيهم وقبله إلى أن زال عنهم الملك . 
" وكانت علوم أهل بابل  قبل ظهور الفرس  عليهم الحيل والنيرنجبات وأحكام النجوم ، وكانوا يعبدون أوثانا قد علموها على أسماء الكواكب السبعة ، وجعلوا لكل واحد منها هيكلا فيه صنمه ، ويتقربون إليها بضروب من الأفعال على حسب اعتقاداتهم من موافقة ذلك الكوكب الذي يطلبون منه بزعمهم فعل الخير أو شر ، فمن أراد شيئا من الخير والصلاح بزعمه يتقرب إليه بما يوافق المشترى من الدخن والرقى والعقد والنفث عليها ، ومن طلب شيئا من الشر والحرب والموت والبوار لغيره تقرب بزعمه إلى زحل بما يوافقه من ذلك ، ومن أراد البرق والحرق والطاعون تقرب بزعمه إلى المريخ بما يوافقه من ذلك من ذبح بعض الحيوانات ، وجميع تلك الرقى بالنبطية تشتمل على تعظيم تلك الكواكب إلى ما يريدون من خير أو شر ومحبة وبغض فيعطيهم ما شاءوا من ذلك ، فيزعمون أنهم عند ذلك يفعلون ما شاءوا في غيرهم من غير مماسة ولا ملامسة سوى ما قدموه من القربات للكوكب الذي طلبوا ذلك منه ، فمن العامة من يزعم أنه يقلب الإنسان حمارا أو كلبا ثم إذا شاء أعاده ، ويركب البيضة والمكنسة والخابية ويطير في الهواء يمضي من العراق  إلى الهند  وإلى ما شاء من البلدان ثم يرجع من ليلته . 
" وكانت عوامهم تعتقد ذلك ؛ لأنهم كانوا يعبدون الكواكب ، وكل ما دعا إلى تعظيمها اعتقدوه ، وكانت السحرة تحتال في خلال ذلك بحيل تموه بها على العامة إلى اعتقاد صحته ، بأن يزعم أن ذلك لا ينفذ ولا ينتفع به أحد ، ولا يبلغ ما يريد إلا من اعتقد صحة قولهم وتصديقهم فيما يقولون . 
" ولم تكن ملوكهم تعترض عليهم في ذلك ، بل كانت السحرة عندها بالمحل الأجل لما كان لها في نفوس العامة من محل التعظيم والإجلال ؛ ولأن الملوك في ذلك الوقت كانت تعتقد ما تدعيه السحرة للكواكب ، إلى أن زالت تلك الممالك ، ألا ترى أن الناس في زمن فرعون  كانوا يتبارون بالعلم والسحر والحيل والمخارق ؛ ولذلك بعث إليهم موسى  عليه السلام بالعصا والآيات التي علمت السحرة أنها ليست من السحر في شيء ، وأنها لا يقدر عليها غير الله تعالى ، فلما زالت تلك الممالك ، وكان من ملكهم بعد ذلك من الموحدين يطلبونهم ويتقربون إلى الله تعالى بقتلهم ، كانوا يدعون عوام الناس وجهالهم سرا كما يفعله الساعة كثير ممن يدعي ذلك مع النساء والأحداث الأغمار والجهال الحشو . 
وكانوا يدعون من يعملون له ذلك إلى تصديق قولهم والاعتراف بصحته ، والمصدق لهم بذلك يكفر من وجوه : ( أحدهما ) : التصديق بوجوب تعظيم الكواكب وتسميتها آلهة    . 
( والثاني ) : اعترافه بأن الكواكب تقدر على ضره ونفعه . 
( والثالث ) : أن السحرة تقدر على   [ ص: 46 ] مثل معجزات الأنبياء عليهم السلام ، فبعث الله إليهم ملكين يبينان للناس حقيقة ما يدعون ، وبطلان ما يذكرون ، ويكشفان لهم ما به يموهون ، ويخبرانهم بمعاني تلك الرقى ، وأنها شرك وكفر ، بحيلهم التي كانوا يتوصلون بها إلى التمويه على العامة ، ويظهران لهم حقائقها ، وينهيانهم عن قبولها والعمل بها ، بقولهما لهم : إنما نحن فتنة فلا تكفر    ( 2 : 102 ) فهذا أصل سحر بابل  ، ومع ذلك فقد كانوا يستعملون سائر وجوه السحر والحيل التي نذكرها ، ويموهون بها على العامة ، ويعزونها إلى فعل الكواكب ؛ لئلا يبحث عنها ويسلمها لهم . 
" فمن ضروب السحر كثير من التخيلات التي مظهرها على خلاف حقائقها ، فمنها ما يعرفه الناس بجريان العادة بها وظهورها ، ومنها ما يخفى ويلطف ولا يعرف حقيقته ومعنى باطنه إلا من تعاطى معرفة ذلك ؛ لأن كل علم لا بد أن يشتمل على جلي وخفي وظاهر وغامض ، فالجلي منه يعرفه كل من رآه وسمعه من العقلاء ، والغامض الخفي لا يعرفه إلا أهله ، ومن تعاطى معرفته وتكلف فعله والبحث عنه ، وذلك نحو ما يتخيل راكب السفينة إذا سارت في النهر فيرى أن الشط بما عليه من النخل والبنيان سائر معه ، وكما يرى القمر في مهب الشمال يسير للغيم في مهب الجنوب ، وكدوران الدوامة فيها الشامة فيراها كالطوق المستدير في أرجائها ، وكذلك يرى هذا في الرحى إذا كانت سريعة الدوران ، وكالعود في طرفه الجمرة إذا أداره مديره رأى تلك النار التي في طرفه كالطوق المستدير ، وكالعنبة التي يراها في قدح فيه ماء كالخوخة والإجاصة عظما ، وكالشخص الصغير يراه في الضباب عظيما جسيما ، وكبخار الأرض الذي يريك قرص الشمس عند طلوعها عظيما فإذا فارقته وارتفعت صغرت ، وكما يرى المرئي في الماء منكسرا أو معوجا ، وكما يرى الخاتم إذا قربته من عينك في سعة حلقة السوار ، ونظائر ذلك كثيرة من الأشياء التي تتخيل على غير حقائقها فيعرفها عامة الناس . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					