وصف الله الرسول الذي أوجب اتباعه  على كل من أدركه من بني إسرائيل  وغيرهم بصفات ونعوت : أولها - ( أنه هو النبي الأمي الكامل ) ثانيها - قوله - تعالى - : ( الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل    ) ومعناه الذي يجد الذين يتبعونه من بني إسرائيل  صفته ونعوته مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل ، وإنما   [ ص: 196 ] ذكر الإنجيل والسياق في قوم موسى  ؛ لأن المخاطب به بالذات بنو إسرائيل  ، ومما هو مأثور عن المسيح    - عليه السلام - في هذه الأناجيل : لم أبعث إلا إلى خراف إسرائيل الضالة . ولا يعارضه ما رووا عنه من أمره تلاميذه أن يكرزوا بالإنجيل في الخليقة كلها ، إذ يجمع بينهما أن يراد بالخليقة ما كانوا يسمونه ( اليهودية ) والعبارة الأولى نص بصيغة الحصر لا تحتمل التأويل ، وقال أبو السعود    : الذي يجدونه مكتوبا  باسمه ونعوته الشريفة بحيث لا يشكون أنه هو ؛ ولذلك عدل عن أن يقال : يجدون نعته أو وصفه مكتوبا عندهم ، والظرف ( عندهم ) لزيادة التقرير ، وأن شأنه - عليه السلام - حاضر عندهم لا يغيب عنهم ا هـ . وسيأتي بيان ذلك في فصل خاص . 
ثالثها ورابعها - قوله : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر  يحتمل أنه استئناف لبيان أهم ما يحتاجون إليه عند بعثته ، ويحتمل أنه تفسير لما كتب . والمعروف ما تعرف العقول السليمة حسنه ، وترتاح القلوب الطاهرة له لنفعه وموافقته للفطرة والمصلحة ، بحيث لا يستطيع العاقل المنصف السليم الفطرة أن يرده أو يعترض عليه إذا ورد الشرع به . والمنكر ما تنكره العقول السليمة ، وتنفر منه القلوب ، وتأباه على الوجه المذكور أيضا . وأما تفسير المعروف بما أمرت به الشريعة ، والمنكر بما نهت عنه فهو من قبيل تفسير الماء بالماء . وكون ما قلناه يثبت مسألة التحسين والتقبيح العقليين وفاقا للمعتزلة  وخلافا للأشعرية  مردود إطلاقه بأننا إنما نوافق كلا منهما من وجه ، ونخالفه من وجه اتباعا لظواهر الكتاب والسنة وفهم السلف لهما فلا ننكر إدراك العقول لحسن الأشياء مطلقا ، ولا نقيد التشريع بعقولنا ، ولا نوجب على الله شيئا من عند أنفسنا ، بل نقول : إنه لا سلطان لشيء عليه ، فهو الذي يوجب على نفسه ما شاء إن شاء كما كتب على نفسه الرحمة لمن شاء ، وأن من الشرع ما لم تعرف العقول حسنه قبل شرعه ، وأن كل ما شرعه تعالى يطاع بلا شرط ولا قيد . 
قال الحافظ ابن كثير  في تفسير هذا الأمر والنهي ما نصه : هذه صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المتقدمة ، وهكذا كانت حاله - عليه السلام - لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر ، كما قال  عبد الله بن مسعود    : إذا سمعت الله يقول : يا أيها الذين آمنوا  فارعها سمعك فإنه خير تؤمر به ، أو شر تنهى عنه ، ومن أهم ذلك وأعظمه ما بعثه الله به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له ، والنهي عن عبادة ما سواه ، كما أرسل به جميع الرسل قبله ، كما قال : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت    ( 16 : 36 ) وقال  الإمام أحمد    - وذكر سنده إلى أبي حميد  ، وأبي أسيد    - رضي الله عنهم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا   [ ص: 197 ] سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد ، فأنا أبعدكم منه  " رواه أحمد    - رضي الله عنهم - بإسناد جيد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب . 
خامسها وسادسها - قوله - تعالى - : ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث  الطيب ما تستطيبه الأذواق من الأطعمة ، وتستفيد منه التغذية النافعة ، ومن الأموال ما أخذ بحق وتراض في المعاملة ، والخبيث من الأطعمة ما تمجه الطباع السليمة وتستقذره ذوقا كالميتة والدم المسفوح ، أو تصد عنه العقول الراجحة لضرره في البدن كالخنزير الذي تتولد من أكله الدودة الوحيدة ، أو لضرره في الدين كالذي يذبح للتقرب به إلى غير الله - تعالى - على سبيل العبادة - أي : لا ما يذبح لتكريم الضيفان ؛ من صغير وكبير أو أمير أو سلطان - والذي يحرم ذبحه أو أكله لتشريع باطل لم يأذن به الله - كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، والخبيث من الأموال ما يؤخذ بغير الحق كالربا والرشوة والغلو والسرقة والخيانة والغصب والسحت . وقد كان الله - تعالى - حرم على بني إسرائيل  بعض الطيبات عقوبة لهم كما قال : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم    ( 4 : 160 ) الآية . وتقدم تفسيرها في سورة النساء . وحرموا هم على أنفسهم طيبات أخرى لم يحرمها الله - تعالى - عليهم ، وأحلوا لأنفسهم أكل أموال غير الإسرائيليين بالباطل ، كما حكى الله - تعالى - عنهم بعد ذكر استحلال بعضهم أكل ما يأتمنهم عليه العرب ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون    ( 3 : 75 ) وتقدم تفسيرها في سورة آل عمران . 
سابعها - قوله - تعالى - : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم  الإصر : الثقل الذي يأصر صاحبه ؛ أي : يحبسه من الحراك لثقله ، وهو مثل لثقل تكليفهم وصعوبته نحو اشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم ، وكذلك الأغلال مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة ، قالهما  الزمخشري  ، وذكر للثاني عدة أمثلة من شدة أحكام التوراة . وقال ابن كثير    : أي أنه جاء بالتيسير والسماح كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " بعثت بالحنيفية السمحة   " وقال - صلى الله عليه وسلم - لأميريه معاذ   وأبي موسى الأشعري  لما بعثهما إلى اليمن    : " بشروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا ، وتطاوعا ولا تختلفا   " والحديث رواه الشيخان وغيرهما . حاصل ما تقدم أن بني إسرائيل  كانوا فيما أخذوا به من الشدة في أحكام التوراة من العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية والعقوبات كالذي يحمل أثقالا يئط منها ، وهو مع ذلك موثق بالسلاسل والأغلال في عنقه ويديه ورجليه ، وقد بينا في مواضع أخرى حكمة أخذ بني إسرائيل  بالشدة في الأحكام ، وأن المسيح    - عليه السلام -   [ ص: 198 ] خفف عنهم بعض التخفيف في الأمور المادية وشدد عليهم في الأحكام الروحية ؛ لما كان من إفراطهم في الأولى ، وتفريطهم في الأخرى ، وكل هذا وذاك قد جعله الله - تعالى - تربية موقوتة لبعض عباده ، ليكمل استعدادهم للشريعة الوسطى العادلة السمحة الرحيمة التي يبعث بها خاتم الرسل الذي أوجب اتباعه على كل من أدركه من الرسل وأقوامهم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					