ثم أمره تعالى أن ينفي عن نفسه علم الغيب مستدلا عليه بانتفاء أظهر منافعه القريبة فقال : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء   الخير ما يرغب الناس فيه من المنافع المادية والمعنوية كالمال والعلم ، والسوء ما يرغبون عنه مما يسوءهم ويضرهم ، ويراد بهما هنا الجنس الذي يصدق ببعض أفراده وهو الخير الذي يمكن تداركه وتحصيله ، والسوء الذي يمكن الاستعداد لدفعه بعلم ما يأتي به الغد . والجملة استدلال على نفي علم النبي - صلى الله عليه وسلم - الغيب ، كأنه يقول : لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا ولا أعلم الغيب ، ولو كنت أعلم الغيب - وأقربه ما يقع في مستقبل أيامي في الدنيا - لاستكثرت من الخير كالمال وأعمال البر التي تتوقف على معرفة ما يقع في المستقبل من عسرة وغلاء مثلا وتغير الأحوال ، ولما مسني السوء الذي يمكن الاحتياط لدفعه بعلم الغيب ، كشدة الحاجة مثلا ، ومن أمثلته في العبادة قوله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع :   " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت " رواه الشيخان وغيرهما - يعني لو أنه علم - صلى الله عليه وسلم - ما يحصل من انفراده دون أصحابه بسوقه الهدي إلى الحرم من مشقة فسخهم الحج إلى عمرة دونه ; إذ لا يباح الفسخ والتحلل بالعمرة لمن معه الهدي ، لما ساق الهدي ليوافق الجمهور في تمتعهم بالعمرة إلى الحج . ومن أمثلته في الإدارة وسياسة الحرب ما عاتبه الله تعالى عليه من الإعراض عن الأعمى والتصدي للأغنياء ، ومن أخذ الفداء من أسرى بدر  ، ومن الإذن بتخلف المنافقين في غزوة تبوك  سنة العسرة ، ولم أر أحدا نبه على هذا النوع من المفسرين . 
 [ ص: 427 ] وفيه وجه آخر أنه مستأنف غير معطوف على ما قبله ، ومعناه : وما مسني الجنون كما زعم الجاهلون ، فيكون حاصل معنى الآية نفي رفعه إلى رتبة الربوبية الذي افتتن بمثله الغلاة ، ونفي وضعه في أدنى مرتبة البشرية الذي زعمته الغواة العتاة . وبيان حقيقة أمره ، وما رفع الله تعالى من قدره ، بجعله فوق جميع البشر بوحيه ، ووساطته بينه وبين خلقه ، لكن في التبليغ والإرشاد ، لا في الخلق والإيجاد ، ولا في تدبير أمور العباد ; فإن هذا شأن الربوبية ، وإنما هو صلوات الله عليه وسلامه في أعلى مقام العبودية . 
ومن نكت البلاغة في القرآن بتقديم اللفظ على ما يقابله في آية وتأخيره في أخرى : تقديم النفع على الضر في هذه الآية ، وتأخيره وتقديم الضر عليه في آية سورة يونس المذكورة آنفا . والفرق المحسن لذلك أن آية الأعراف جاءت بعد السؤال عن الساعة أيان مرساها ؟ وأكبر فوائد العلم بالساعة ، وهو من علم الغيب - الاستعداد لها بالعمل الصالح ، واتقاء أسباب العقاب فيها ، فاقتضى ذلك البدء بنفي ملك النفع لنفسه بمثل هذا الاستعداد ، وتأخير ملك الضر المراد به ملك دفعه واتقاء وقوعه ، وأن يستدل على ذلك بما ذكر من أنه لو كان يعلم الغيب حتى فيما دون الساعة زمنا وعظم شأنه لاستكثر من الخير الذي يتعلق بالاستعداد للمستقبل ، واتقى أسباب ما يمسه من السوء فيه كالأمثلة التي ذكرناها . 
وأما آية سورة يونس ، فقد وردت في سياق تماري الكفار فيما أوعدهم الله من العقاب على التكذيب بما جاءهم به رسوله من البينات والهدى ، واستعجالهم إياه تهكما ومبالغة في الجحود ، فناسب أن يذكر في جوابهم أنه لا يملك لنفسه ولا لهم ضرا كتعجيل العذاب الذي يكذبون به ، ولا نفعا كالنصر الذي يترتب على تعجيل العذاب لهم في الدنيا ، فقد أمره الله تعالى أن يبلغهم أن أمر عذابهم تعجيلا أو تأخيرا لله تعالى وحده ، كما أمره أن ينفي عن نفسه القدرة على ما اقترحوه من الآيات ، ومن ذلك ما ذكره تعالى من مقترحاتهم في سورة الإسراء من تفجير ينبوع في مكة  ، وإيجاد جنة تتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، أو إسقاط السماء عليهم كسفا - وهو من العذاب - إلخ . ومن أمره تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبهم عن ذلك بقوله : قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا    ( 17 : 93 ) وقال تعالى في هذه السورة أيضا : ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا    ( 17 : 54 ) أي موكلا بأمر ثوابهم وعقابهم منفذا له ، وقال تعالى في سورة الرعد : وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب    ( 13 : 40 ) . 
وهاك ما ورد في التفسير المأثور في الآية عن تفسير الحافظ ابن كثير  قال : " أمره الله تعالى أن يفوض الأمور إليه ، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل   [ ص: 428 ] ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا ما أطلعه الله عليه ، كما قال تعالى : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا    ( 72 : 26 ) الآية ، وقوله : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير  قال عبد الرزاق  عن  الثوري  عن منصور  عن مجاهد  ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير  قال: لو كنت أعلم متى أموت لعملت عملا صالحا ، وكذا روى  ابن أبي نجيح  عن مجاهد ،  وقال مثله  ابن جريج  ، وفيه نظر; لأن عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ديمة ، وفي رواية كان إذا عمل عملا أثبته ، فجميع عمله كان على منوال واحد ، كأنه ينظر إلى الله عز وجل في جميع أحواله ، اللهم إلا أن يكون المراد أن يرشد غيره إلى الاستعداد لذلك والله أعلم . " والأحسن في هذا ما رواه الضحاك  عن  ابن عباس  ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير  أي: من المال ، وفي رواية لعلمت إذا اشتريت شيئا ما أربح فيه فلا أبيع شيئا إلا ربحت فيه ولا يصيبني الفقر ، وقال  ابن جرير  وقال آخرون : معنى ذلك: لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة ، ولوقت الغلاء من الرخص . وقال  عبد الله بن زيد بن أسلم    : وما مسني السوء  قال : لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون وأتقيه . " اهـ . وما قلناه أعم وأصح . 
هذا وإننا قد بينا في تفسير قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي    ( 6 : 50 ) أن الغيب قسمان    : حقيقي لا يعلمه إلا الله ، وإضافي يعلمه بعض الخلق دون بعض ، وأن هذه الآية تنفي قدرة الرسول على التصرف في خلق الله تعالى بما هو فوق كسب البشر ، وتنفي عنه علم الغيب بهذا المعنى ، إلا ما أعلمه الله تعالى به بوحيه لتعلقه بوظيفة الرسالة كالملائكة والحساب والثواب والعقاب - وأن ما يطلع الله عليه الرسل من ذلك لا يكون من علمهم الكسبي ، بل يدخل في معنى الإجماع على أن النبوة غير مكتسبة . وأوردنا هنالك قوله تعالى في ذلك من سورة الجن : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا  إلا من ارتضى من رسول  إلى قوله ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم    ( 72 : 26 - 28 ) الآية ، واستطردنا إلى تفنيد ما يدعيه بعض مشايخ طرق الصوفية  أو يدعى لهم ، من علم الغيب والتصرف في ملك الله أحياء أو أمواتا بما أغنى عن إعادته هنا ثم أطلنا البحث في علم الغيب في تفسير وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو    ( 6 : 59 ) الآية ، وتكلمنا فيه عن الكشف وغير ذلك من معرفة بعض الأمور المستقبلة المتعلقة بمسألة الغيب الإضافي أو التي لا يصح أن تسمى غيبا; لأن لها أسبابا فطرية . وفي الكلام على أشراط الساعة الذي مر بك قريبا بحث فيما أطلع الله عليه رسوله بما دون الوحي   [ ص: 429 ] من بعض الحوادث المستقبلة ، كتمثل الأشياء له تمثلا متفاوتا في الوضوح . وهو لا يعارض هذه الآية كما علمت . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					