وجملة القول : أن المراد من اشتراط الثلاثة الأشياء للكف عن قتال المشركين بعد بلوغ الدعوة  ، وظهور الحجة هي تحقق الدخول في جماعة المسلمين بالفعل ، فإن التوبة عن الشرك وحدها وهي الشرط الأول لا تكفي لتأمينهم ، وإباحة دخول المسجد الحرام والحج مع المسلمين ، وسائر المعاملات التي تثبت لمن يقيم في الحجاز  وسائر جزيرة العرب  ، وإن كان التعبير عن هذه التوبة بالنطق بكلمة التوحيد أو الشهادتين كلتيهما كافيا في موقف القتال للكف عنه كما تقدم آنفا ، ولكنه لا يكفي بعد ذلك لمعاملة من ينطق بهما معاملة المسلمين في عامة الأوقات بل لا بد من التزام شرائع الإسلام ، وإقامة شعائره فمقتضى الشهادة الأولى لمن كان صادقا في النطق بها ترك عبادة غير الله تعالى من دعاء أو ذبيحة أو غيرهما ، ومقتضى الشهادة الثانية طاعة الرسول فيما يبلغه عن الله تعالى ، فإذا لم يكن العمل الذي تقتضيه الشهادتان مؤيدا لهما كانتا خداعا وغشا ، ولما كانت شرائع الإسلام القطعية من فعل وترك كثيرة ، وكان الكثير باشتراط الركنين الأعظمين ، وهما الصلاة التي تجب خمس مرات في كل يوم وليلة ، وهي الرابطة الدينية الروحية الاجتماعية بين المسلمين ، والزكاة وهي الرابطة المالية السياسية الاجتماعية ، ومن أقامهما كان أجدر بإقامة غيرهما . 
ومن المعلوم بالضرورة أن من قبل من المشركين أن يسلم ويصلي ويؤدي الزكاة ، وامتنع من الإذعان لصيام رمضان والحج مع الاستطاعة  لا يعتد بإسلامه أيضا ، وكذلك إذا كان لا يحرم ما حرم الله ورسوله قطعا ، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقبل من الأعرابي ما شرطه في إسلامه من إباحة الزنا له ، وإن بين استباحة الذنب ، وعدم الإذعان لحكم الله فيه ، وبين فعله مع الإذعان والإيمان فرقا واضحا وبونا بينا ، ولكن ذهب بعض أئمة العلم إلى   [ ص: 155 ] أن للصلاة والزكاة شأنا ليس لغيرهما من أركان الإسلام وشرائعه ، حتى المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة ، وهو أن تركهما يعد كفرا  بمعنى الخروج من الملة بعد الدخول في الإسلام أو النشوء فيه ، حتى مع الاعتراف بحقيته ، وكونهما من أركانه ، ويقول بعضهم بأن تاركهما يقتل حدا لا كفرا ، وقال بعضهم بذلك في الصلاة وحدها ، وأن صيام رمضان وحج البيت على المستطيع  لا يكفر تاركهما إلا إذا استحل هذا الترك أو جحد وجوبهما بعد العلم الذي تقوم به الحجة ، أي : لأن الاستحلال عبارة عن رفض الإذعان النفسي والفعلي ، وهو كنه الإسلام ، والجحود عبارة عن عدم الاعتقاد أو الاستكبار عنه وهو كنه الإيمان . 
والآية وحديث  ابن عمر  في معناهما لا يدلان على أن المسلم إذا ترك بعض الصلوات لكسل ، أو شاغل  لا يعد عذرا شرعيا ، يكون بذلك مرتدا عن الإسلام ، تجري عليه أحكام المرتدين إذا لم يتب عقب أول فريضة تركها أو الثانية إن كانت تجمع معها بأن يجدد إسلامه ويصليها ، ولا يدلان كذلك على وجوب قتله حدا كقتل من قتل مؤمنا متعمدا ، لا يدلان على ذلك بمنطوقهما ، ولا بمفهوم الشرط على القول الحق بحجيته ، فإن موضوع كل منهما بيان ما يشترط بالكف عن قتال المشركين المحاربين ، لا بيان لجملة الإسلام ، وما ينافيه ويعد ارتدادا عنه بعد الدخول فيه . 
فإن قيل : ظاهر لفظ الحديث أنه مطلق عام في قتال كل الكفار ، لا في المشركين كالآية . قلت : أولا : إن الله تعالى جعل لقتال أهل الكتاب في هذه السورة غاية أخرى غير هذه الغاية العامة ، وهي إعطاء الجزية ، وهي ليست ناسخة ، ولا مخصصة للآية لاختلاف موردهما ، وهذا يعارض عموم الحديث ، فيترجح حمله على قتال المشركين كالآية ، ليكون معناه صحيحا محكما ، وكان من فقه  البخاري  في أبواب صحيحه إيراده تابعا للآية في باب واحد من كتاب الإيمان . 
ثانيا : إنه على كل حال وارد في بيان الغاية التي ينتهي إليها قتال من يقاتلنا من الكفار . فلا يدخل في معناه بيان ما يصير به المؤمن كافرا . 
ثالثا : إن قتال الكافرين غير قتل من عساه يستحق القتل من المسلمين ، كما بينه في المسألة بعض العلماء المدققين ، فالقتال فعل مشترك بين فريقين ، والقتل الشرعي تنفيذ حكم على مجرم ثبت عليه . 
رابعا : من أراد جعل هذا الحديث دالا على غير ما تدل عليه الآية من حكم ردة أو حد بقتل مسلم ، يرد عليه إعلاله بما ينزل به عن درجة الصحة التي يثبت بها مثل هذه الأحكام العظيمة الشأن ، وهو أن في إسناده من الغرابة المضاعفة ما استغرب معه بعض   [ ص: 156 ] نقاد الحديث تصحيح الشيخين له من امتناع  الإمام أحمد  عن إيراده في مسنده على سعته ، وإحاطته بأمثال هذه الأحاديث ، وقد صرح قوم من العلماء باستبعاد صحته كما قال الحافظ في شرحه من الفتح ، وهو مخالف لحديث  أبي هريرة  الذي خرجه الجماعة كلهم ، وقال بعضهم بتواتره وليس فيه زيادة الصلاة والزكاة وهو أولى بالترجيح ، ثم إنه يعارضه نصوص أخرى من الكتاب والسنة ، وهي التي أخذ بها الجمهور فثبت أن القول بدلالته على ما ذكر اجتهادية ، ولا نكفر مسلما إلا بنص قطعي لا خلاف في روايته ولا في دلالته . 
هذا - وإن القائلين بكفر تارك الصلاة من العلماء يحتجون بأحاديث أخرى هي أظهر في المسألة من تكلف الاستدلال عليها بهذه الآية وهذا الحديث ، ومع هذا رأينا جمهور الفقهاء المتقدمين والمتأخرين يخالفونهم فيها . أصرح هذه الأحاديث ما رواه أحمد  ومسلم  وأبو داود   والترمذي  من حديث جابر  مرفوعا بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة وفي رواية " الشرك " وما رواه أحمد  وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم من حديث بريدة  مرفوعا العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر يعني بيننا وبين الكفار . وأصرح منهما حديث أنس  من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر رواه  الطبراني  في الأوسط ، والصواب أنه مرسل كما قال  الدارقطني    . 
وقد ذهب إلى كفر تارك الصلاة  من فقهاء الأمصار  أحمد بن حنبل  ،  وعبد الله بن المبارك  ،  وإسحاق بن راهويه    . ويروى عن علي  كرم الله وجهه ، ولكن العترة وجماهير السلف والخلف ومنهم أبو حنيفة  ومالك   والشافعي  على أنه لا يكفر بل يفسق فيستتاب ، فإذا لم يتب قتل حدا عند مالك   والشافعي  وغيرهما . وقال أبو حنيفة  وبعض فقهاء الكوفة  ، والمزني  صاحب  الشافعي    : لا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي ، وحملوا أحاديث التكفير على الجاحد أو المستحل للترك وعارضوها ببعض النصوص العامة ، وحديث لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة متفق عليه من حديث  ابن مسعود  ، ورواه مسلم  وبعض أصحاب السنن من حديث عائشة  بما يفسر أو يخصص معنى المفارق للجماعة بالخارج المقاتل ، وهو : " ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض   " وقد يقال :   [ ص: 157 ] إن ترك الصلاة كفر ومفارقة للجماعة فتاركها لا يدخل في عموم المستثنى منه ، فالحق في الجواب ما تقدم آنفا في سياق بيان حقيقة الإسلام ، ولكن هؤلاء يقولون : يكفر بترك صلاة واحدة ، ويزعم بعض أنصارهم حتى من المستقلين كالشوكاني  أن ترك الصلاة يصدق بترك صلاة واحدة ، وهو مردود ، فإن المعنى الكلي كالجنس لا ينتفي بانتفاء فرد من أفراده ، فمن أفطر في يوم من أيام رمضان لا يعد تاركا لفريضة الصيام مطلقا ، ومن ترك بعض الدروس من طلاب العلم لا يعد تاركا لطلب العلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					