( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون    ) 
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى أن الطلاق مرتان وأنه يكون بلا عوض وقد يكون بعوض قال : ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره     ) أي : فإن طلقها بعد المرتين طلقة ثالثة - وهي التسريح بإحسان - فلا يملك مراجعتها بعد ذلك إلا إذا تزوجت بآخر زواجا صحيحا مقصودا حصل به ما يراد بالزواج من الغشيان . قال الأستاذ الإمام : عبر عن الطلقة الثالثة بـ ( إن ) دون إذا للإشعار بأنها لا ينبغي أن تقع مطلقا ، كأنه تعالى لا يرضى أن يتجاوز الطلاق المرتين ، والنكاح له طلاقان : العقد وما وراء العقد ، وهو المقصود منه الذي يكنى عنه بالدخول . وقد ذهب  سعيد بن المسيب  إلى أن الحل يحصل بمجرد العقد ، وهو خلاف ما عليه الجماهير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، إذ قالوا : لا بد من المخالطة الزوجية أخذا من إسناد النكاح إلى المرأة مع العلم بأن المرأة لا تتولى العقد ، ومن تسمية من   [ ص: 311 ] تنكح زوجا . وهذا هو الموافق لحديث العسيلة الصحيح والمنطبق على الحكمة في منع المراجعة . 
روى  الشافعي  وأحمد   والبخاري  ومسلم  وغيرهم من حديث عائشة  قالت : ( ( جاءت امرأة رفاعة القرظي  إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إني كنت عند رفاعة  فطلقني فبت طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير  وما معه إلا مثل هدبة الثوب ، فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة  ؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك   ) ) والعسيلة كناية عن أقل ما يكون من تغشي الرجل للمرأة . وذكر السيوطي  في أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في امرأة رفاعة  هذه واسمها عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك  ، ورفاعة بن وهب بن عتيك  ابن عمها . وساق الحديث من رواية ابن المنذر  عن  مقاتل بن حيان  ، وفيه أنها قالت : ( ( إنه طلقني - أي عبد الرحمن  زوجها الثاني - قبل أن يمسني أفأرجع إلى الأول ؟ قال : لا حتى يمس   ) ) . 
وقال المفسرون والفقهاء في حكمة ذلك : إنه إذا علم الرجل أن المرأة لا تحل له بعد أن يطلقها ثلاث مرات إلا إذا نكحت زوجا غيره فإنه يرتدع ; لأنه مما تأباه غيرة الرجال وشهامتهم ، ولا سيما إذا كان الزوج الآخر عدوا أو مناظرا للأول ، ولنا أن نزيد على ذلك أن الذي يطلق زوجته ثم يشعر بالحاجة إليها فيرتجعها نادما على طلاقها ، ثم يمقت عشرتها بعد ذلك فيطلقها ، ثم يبدو له ويترجح عنده عدم الاستغناء عنها فيرتجعها ثانية ، فإنه يتم له بذلك اختبارها; لأن الطلاق ربما جاء عن غير روية تامة ومعرفة صحيحة منه بمقدار حاجته إلى امرأته ، ولكن الطلاق الثاني لا يكون كذلك; لأنه لا يكون إلا بعد الندم على ما كان أولا والشعور بأنه كان خطأ ، ولذلك قلنا : إن الاختبار يتم به ، فإذا هو راجعها بعده كان ذلك ترجيحا لإمساكها على تسريحها ، ويبعد أن يعود إلى ترجيح التسريح بعد أن رآه بالاختبار التام مرجوحا ، فإن هو عاد وطلق ثالثة كان ناقص العقل والتأديب ، فلا يستحق أن تجعل المرأة كرة بيده يقذفها متى شاء تقلبه ويرتجعها متى شاء هواه ، بل يكون من الحكمة أن تبين منه ويخرج أمرها من يده ، لأنه علم أن لا ثقة بالتئامها وإقامتهما حدود الله تعالى ، فإن اتفق بعد ذلك أن تزوجت برجل آخر عن رغبة واتفق أن طلقها الآخر أو مات عنها ، ثم رغب فيها الأول وأحب أن يتزوج بها - وقد علم أنها صارت فراشا لغيره - ورضيت هي بالعود إليه ، فإن الرجاء في التئامهما وإقامتهما حدود الله تعالى يكون حينئذ قويا جدا ، ولذلك أحلت له بعد العدة ، وقد شرحنا الحكمة بناء على ما فسرنا به كون الطلاق مرتين ، وكون النكاح لزوج آخر هو ما يكون بين الزوجين بالعقد الصحيح وهو الحق . 
( فإن طلقها    ) الزوج الثاني ( فلا جناح عليهما    ) أي : الزوج الثاني والمرأة ( أن يتراجعا    ) هذا ما اختاره الأستاذ الإمام خلافا ( للجلال    ) وغيره من القائلين : إن المراد الزوج الأول   [ ص: 312 ] والمرأة ، قال وحكمته بعد قوله تعالى : ( وبعولتهن أحق بردهن     ) هي إزالة وهم من يتوهم أن الزوج الأول يكون أحق بها ولا تظهر لنا حكمة في قولهم : إن المراد الزوج الأول والمرأة . وعلى كل من القولين لا بد في التراجع من مراعاة شرطه وهو قوله : ( إن ظنا أن يقيما حدود الله    ) أي : ترجح عند كل منهما أنه يقوم بحق الآخر على الوجه الذي حده سبحانه تعالى ، فلا بد من حسن القصد وسلامة النية من كلا الزوجين; لأن الله تعالى ما وضع هذه الحدود للزوجين إلا ليصلح حالهما ويستقيم عملهما ، فإن كانت هناك نية سوء فإن هذا التراجع لا قيمة له عند الله تعالى ، وإن صح عند القاضي أو المفتي عملا بالظاهر ، وقد فسر بعضهم الظن هنا بالعلم ، ولا وجه له لغة ولا فعلا إذ لا يعلم أحد باليقين كيف يعامل الآخر في المستقبل ويكفي أن ينوي إقامة الحدود الشرعية ويغلب على ظنه القدرة على تنفيذ ما نواه ، قال : ( وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون     ) الإشارة بتلك إلى الأحكام في الآية والآيتين يبينها في كتابه لأهل العلم بفائدتها وما فيها من المصلحة ، ومن علم المصلحة في شيء كان مندفعا بطبعه إلى العمل به وإقامته على الوجه الذي تتحقق به الفائدة منه ، يبينها لهؤلاء الذين يعلمون الحقائق; لأنهم هم الذين يقيمونها، لا من يجهل ذلك فيأخذ بظاهر قول المفتي أو القاضي ولا يجعل لحسن النية وإخلاص القلب مدخلا في عمله ، فيرجع إلى المرأة ويضمر لها السوء ويبغيها الانتقام ، وقد بينا معنى هذه الحدود في تفسير ( ولهن مثل الذي عليهن    ) فارجع إليه إن كنت نسيته . 
ألا فليعلم كل مسلم أن الآية صريحة في أن النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثا هو ما كان زواجا صحيحا عن رغبة ، وقد حصل به مقصود النكاح لذاته ، فمن تزوج بامرأة مطلقة ثلاثا بقصد إحلالها للأول  كان زواجه صوريا غير صحيح ، ولا تحل به المرأة للأول ، بل هو معصية لعن الشارع فاعلها ، وهو لا يلعن من فعل فعلا مشروعا ولا مكروها فقط ، بل المشهور عند جمهور العلماء أن اللعن إنما يكون على كبائر المعاصي ، فإن عادت إليه كانت حراما ، ومثال ذلك مثال من طهر الدم بالبول; وهو رجس على رجس . وبهذا قال مالك  وأحمد   والثوري  وأهل الظاهر وخلائق غيرهم من أهل الحديث والفقه . 
وقال الأستاذ الإمام : إن نكاح التحليل شر من نكاح المتعة  وأشد فسادا وعارا . 
وقال آخرون من الفقهاء : إنه جائز مع الكراهة ما لم يشترط في العقد; لأن القضاء بالظواهر لا بالمقاصد والضمائر ، نقول : نعم; ولكن الدين القيم هو أن يكون الظاهر عنوان الباطن وإلا كان نفاقا ، على أن باغي التحليل ليس بمتزوج حقيقة الزواج الذي شرعه الله وبينه لا عند نفسه ولا عند من أراده على التحليل وتواطأ معه عليه ، فإن عذر القاضي المنفذ له بجهله للواقع عملا بالظاهر ، فلا يعذر به العالم به والمقترف له . وقد أوضح ذلك الحافظ   [ ص: 313 ] الفقيه ابن القيم  في ( إعلام الموقعين ) أتم الإيضاح ومن غرائب الانتصار للتقليد أن استدل بعضهم ( كالألوسي    ) على صحة نكاح المحلل بتسميته محللا في الحديث الناطق بتحريم التحليل ، وإنما سماه بذلك من أرادوه أول مرة عند حاجتهم إليه ، وبعد التسمية سئل عنه الشارع فلم يجز عمله، ولا يصح أن تكون حكاية لفظ الاسم مبطلة لمضمون الحكم ، فالناس هم الذين سموا ، والشارع هو الذي حرم ، كما ترى في حديث  ابن عباس  الآتي ، وإننا نثبت هنا ما أورده ابن حجر المكي  في الزواجر من الأخبار والآثار في تحريم التحليل قال : أخرج أحمد   والنسائي  وغيرهما بسند صحيح عن  ابن مسعود  رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ( ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : هو المحلل ، لعن الله المحلل والمحلل له   ) ) قال الترمذي    : والعمل على ذلك عند أهل العلم منهم عمر  وابنه وعثمان  رضي الله عنهم وهو قول الفقهاء من التابعين . وروى أبو إسحاق الجوزجاني  عن  ابن عباس  رضي الله عنهما قال : ( ( سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحلل فقال : لا ، إلا نكاح رغبة، لا دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عز وجل، ثم تذوق العسيلة   ) ) . 
وروى ابن المنذر   وابن أبي شيبة  وعبد الرزاق  والأثرم  عن عمر  رضي الله عنه أنه قال : ( ( لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما ) ) فسئل ابنه عن ذلك فقال : كلاهما زان، وسأل رجل  ابن عمر  فقال : ( ( ما تقول في امرأة تزوجتها لأحلها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم ؟ فقال له  ابن عمر    : لا ، إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها ، وإن كرهتها فارقتها ، وإن كنا لنعد هذا سفاحا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسئل عن تحليل المرأة لزوجها فقال : ذلك هو السفاح   ) ) وعن رجل طلق ابنة عمه ثم ندم ورغب فيها فأراد أن يتزوجها رجل ليحلها له  فقال : ( ( كلاهما زان وإن مكثا عشرين سنة أو نحوها ، إذا كان يعلم أنه يريد أن يحلها   ) ) وسئل  ابن عباس    - رضي الله عنهما - عمن طلق امرأته ثلاثا ثم ندم فقال : ( ( هو رجل عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا ، فقيل له : فكيف ترى في رجل يحلها له ؟ فقال : من يخادع الله يخدعه   ) ) اهـ . 
وأنت ترى مع هذا أن رذيلة التحليل قد فشت في الأشرار الذين جعلوا رخصة الطلاق عادة ومثابة ، ولا سيما مع الفتوى والحكم بأن الطلاق مرة واحدة بلفظ الثلاث يقع ثلاثا ، اتخذ غوغاء المسلمين دينهم هزوا ولعبا ، فصار الإسلام نفسه يعاب بهم وما عيبه سواهم ، وقد رأيت في لبنان  رجلا نصرانيا ولع بشراء الكتب الإسلامية وغيرها وأكثر من النظر فيها ، فاهتدى إلى حقية الإسلام مع الميل إلى التصوف ، فأسلم ، وقال لي : لم أجد في الإسلام   [ ص: 314 ] غير ثلاثة عيوب لا يمكن أن تكون من الله . أقبحها مسألة ( التجحيش ) أي : التحليل فبينت له الحق فيها فاقتنع . 
				
						
						
