ومما يجب التنبيه له أن الناس قد غلب عليهم التساهل في أمر الرضاعة  فيرضعون الولد من امرأة ، أو من عدة نسوة ، ولا يعنون بمعرفة أولاد المرضعة وإخوتها ، ولا أولاد زوجها من غيرها وإخوته ليعرفوا ما يترتب عليهم في ذلك من الأحكام كحرمة النكاح ، وحقوق هذه القرابة الجديدة التي جعلها الشارع كالنسب ، فكثيرا ما يتزوج الرجل أخته ، أو عمته ، أو خالته من الرضاعة ، وهو لا يدري . 
وظاهر الآية أن التحريم يثبت بما يسمى إرضاعا في عرف أهل هذه اللغة ، قل أو كثر ، ولكن ورد في الحديث المرفوع لا تحرم المصة والمصتان وفي رواية لا تحرم الإملاجة والإملاجتان   - والإملاجة : المرة من أملجته ثديها إذا جعلته يملجه أي يمصه - والحديث رواه مسلم  في صحيحه من حديث عائشة  ، وروي عنها أيضا أنها قالت : " كان فيما أنزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن . ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن " وقد اختلف علماء السلف والخلف في هذه المسألة ، فذهب بعضهم إلى الأخذ بظاهر الآية من التحريم بقليل الرضاعة ككثيرها  ، ويروى هذا عن علي  ،  وابن عباس  ،  وسعيد بن المسيب  ، والحسن  ،  والزهري  ، وقتادة  ، والحكم  ، وحماد  ،  والأوزاعي  ،  والثوري  ، وهو مذهب أبي حنيفة  ، ومالك  ، ورواية عن أحمد    . وذهب آخرون   [ ص: 386 ] إلى أن التحريم بأقل من خمس رضعات ، ويروى هذا عن  عبد الله بن مسعود  ،  وعبد الله بن الزبير  ، وعطاء  ،  وطاوس  ، وهو إحدى ثلاث روايات عن عائشة  وهو مذهب  الشافعي  ، وأحمد  في ظاهر مذهبه ،  وابن حزم    . وذهب فريق ثالث إلى قول بين القولين ، وهو أن التحريم إنما يثبت بثلاث رضعات فأكثر ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تحرم المصة والمصتان فانحصر التحريم فيما زاد عليهما . وروي هذا عن  أبي ثور  ، وأبي عبيدة  ، وابن المنذر  ، وداود بن علي  ، وهو رواية عن أحمد    . وهنالك مذهب رابع ، وهو أن التحريم لا يثبت إلا بعشر رضعات ، ويروى عن  حفصة أم المؤمنين  ، وهو الرواية الثانية عن عائشة  ، ومذهب خامس وهو أنه لا يثبت بأقل من سبع ، وهو الرواية الثالثة عن عائشة    . 
ورواية الخمس هي المعتمدة عن عائشة  ، وعليها العمل عندها ، وبها يقول أكثر أهل الحديث ، ويرون أن العمل بها يجمع بين الأحاديث فيه إلى القول بنسخ شيء منها ، فهي تتفق مع حديث منع تحريم المصتين والإملاجتين ، ويعد تقييدا لنص القرآن وللأحاديث المطلقة كحديث الصحيحين عن عقبة بن الحارث  أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب  ، فجاءت أمة سوداء فقالت : قد أرضعتكما ، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما قالوا : وتقييد بيان لا نسخ ولا تخصيص . 
قال الذاهبون إلى الإطلاق أو إلى التحريم بالثلاث فما فوقها : إن عائشة  نقلت رواية الخمس نقل قرآن لا نقل حديث فهي لم تثبت قرآنا ; لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ، ولم تثبت سنة فنجعلها بيانا للقرآن ، ولا بد من القول بنسخها لئلا يلزم ضياع شيء من القرآن ، وقد تكفل الله بحفظه ، وانعقد الإجماع على عدم ضياع شيء منه ، والأصل أن ينسخ المدلول بنسخ الدال إلا أن يثبت خلافه ، وعمل عائشة  به ليس حجة على إثباته ، وظاهر الرواية عنها أنها لا تقول بنسخ تلاوته فيكون من هذا الباب ، ويزداد على ذلك أنه لو صح أن ذلك كان قرآنا يتلى لما بقي علمه خاصا بعائشة  ، بل كانت الروايات تكثر فيه ، ويعمل به جماهير الناس ، ويحكم به الخلفاء الراشدون ، وكل ذلك لم يكن بل المروي عن رابع الخلفاء وأول الأئمة الأصفياء القول بالإطلاق كما تقدم . وإذا كان  ابن مسعود  قد قال بالخمس فلا يبعد أنه أخذ ذلك عنها ، وأما عبد الله بن الزبير  فلا شك في أن قوله بذلك اتباع لها ; لأنها خالته ، ومعلمته ، واتباعه لها لا يزيد قولها قوة ولا يجعله حجة . ثم إن الرواية عنها في ذلك مضطربة ، فاللفظ الذي أوردناه في أول السياق رواه عنها مسلم    - كما تقدم - وكذا أبو داود  ،  والنسائي  ، وفي رواية لمسلم    " نزل في القرآن عشر رضعات معلومات ثم نزل أيضا خمس معلومات   " وفي رواية الترمذي    " نزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنسخ من ذلك خمس رضعات إلى خمس رضعات معلومات فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك   "   [ ص: 387 ] وفي رواية  ابن ماجه    " كان فيما أنزل الله - عز وجل - من القرآن ثم سقط : لا يحرم إلا عشر رضعات أو خمس معلومات   " فهي لم تبين في شيء من هذه الروايات لفظ القرآن ، ولا السورة التي كان فيها إلا أن يراد برواية  ابن ماجه  أن ذلك لفظ القرآن . وقولها في رواية الترمذي    : " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي والأمر على ذلك " ظاهره أن الحكم ، والعمل كان على ذلك ، وقد علمت أنه ليس عندنا نقل يؤيد ذلك كما أنه ليس عندنا نقل يؤيد الرواية الأخرى القائلة : " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي وآية الخمس الرضعات مما يتلى من القرآن   " ، ويحتمل أن يراد بالأمر التلاوة ، ولكنه يتبعه الحكم ، والعمل ، وظاهر رواية  ابن ماجه  أن العشر ، والخمس ذكر في آية واحدة ، ووصف الخمس بالمعلومات قال : ثم سقط أي نسخ فبطل حكم الخمس بذلك ، وهذا يخالف مذهبها ، وهو العمل بتحريم الخمس . ولها فيه حديث سهلة بنت سهيل  وسيأتي قريبا ، وفيه أنه واقعة حال ، وأن العدد لا مفهوم له ، وأنه ليس فيه ما يدل على الحصر ، وأنه مخالف لروايتها في حديث الصحيحين إنما الرضاعة من المجاعة وستأتي ، وأنه مخالف لما جرى عليه الجماهير سلفا وخلفا ، فلا يعمل به القائلون بالخمس كالشافعية . ووصف الخمس بالمعلومات في رواية  ابن ماجه  دون العشر مخالف لما رواه سالم  وأصحاب السنن الثلاثة من وصف العشر بها أيضا ، فإنه لا يصح أن يقال : إن المراد عشر رضعات معلومات ، أو خمس معلومات ; لأن ذكر العشر حينئذ يكون لغوا ، وهو غير جائز فلا بد من تقدير وصف للعشر يتفق مع السياق ويرتضيه الأسلوب . فعلم مما تقدم أن الروايات مضطربة يدل بعضها على بقاء التلاوة ، وبعضها على نسخها ، وبعضها على أن حكم العشر والخمس نزل مرة واحدة في جملة واحدة ، وبعضها على أن حكم العشر نزل أولا ثم تراخى الأمر والعمل عليه حتى نزل حكم الخمس ناسخا لما زاد عليه . 
وإذا رجحنا هذا الأخير برواية مسلم  ، والثلاثة له فلا بد أن نقول : إن هذا كان في سياق بيان محرمات النكاح ; لأنه مقامه اللائق به ، ولا يوجد سياق آخر يناسب أن توضع فيه تلك العبارة ثم تحذف منه ، فالأقرب في تصوير ذلك إذا أن يكون أصل الآية ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم عشر رضعات معلومات ) ، ثم نزل بعد طائفة من الزمن عمل فيها الناس بقصر التحريم على عشر - استبدال لفظ " خمس " بلفظ " عشر " ، وبقي الناس يقرءونها هكذا إلى ما بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وإذا سأل سائل لماذا لم تثبت حينئذ في القرآن ؟ أجابه الجامدون على الروايات من غير تمحيص لمعانيها بجوابين : أحدهما ، أنهم لم يثبتوها لأن الذين تلقوها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوفي وهم يتلونها لم يبلغوا عدد التواتر ! . 
ولا يبالي أصحاب هذا الجواب بمخالفته لإجماع من يعتد بإجماعهم على عدم ضياع شيء من القرآن ، ولقوله - تعالى - : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون    [ 15 : 9 ] ثانيهما : أنهم   [ ص: 388 ] لم يثبتوها لعلمهم بأنها نسخت . وقول عائشة    : إنها كانت تقرأ يراد به أنه كان يقرؤها من لم يبلغهم النسخ . وهذا الجواب أحسن وأبعد عن مثار الطعن في القرآن برواية آحادية ، ولكنه خلاف المتبادر من الرواية . وإذا قال السائل : إذا صح هذا : فما هي حكمة نسخ العشر بالخمس عند عائشة  ، ومن عمل بروايتها ، ونسخ الخمس أيضا عند من قبل روايتها وادعى أن الخمس نسخت أيضا بنسخ التلاوة لأنه الأصل ، ولم يثبت خلافه ؟ لعل أظهر ما يمكن أن يجاب به عن هذا هو أن الحكمة في هذا هي التدريج في هذا التحريم كما وقع في تحريم الخمر ، بل لا يخطر في البال شيء آخر يمكن أن يقولوه ، وإذا أنصفوا رأوا الفرق بين تحريم الخمر ، وتحريم نكاح الرضاع واسعا جدا ، فإن شرب الخمر يؤثر في العصب تأثيرا يغري الشارب بالعودة إليه حتى يشق عليه تركه فجأة ، ولا كذلك ترك نكاح المرضعة أو بنتها مثلا ، ثم إذا كانت علة التحريم بالرضاعة - وهي كون بعض بنية الرضيع مكونة من اللبن الذي رضعه - تتحقق بالرضعة ، أو الثلاث ، أو الخمس فكيف يجعلها العليم الحكيم عشرا ، ثم خمسا ، كما روي عن عائشة  ، ثم أقل من ذلك كما يقول ذلك من يقبل هذه الرواية عنها ، ويدعي نسخها ؟ وبعد هذا وذاك يقال: من استفاد من هذا التدريج فتزوج من رضع هو منها ، أو بنت من رضع هو منها تسعا ، أو ثماني أو سبعا أو ستا ؟ ثم ماذا فعل هؤلاء بعد نسخ العشر ؟ هل فارقوا أزواجهم ، أم عفي عنهم ، وجعل التحريم بما دون العشر خاصا بغيرهم ؟ 
الحق أنه لا يظهر لهذا النسخ حكمة ، ولا يتفق مع ما ذكر من العلة ، وإن رد هذه الرواية عن عائشة  لأهون من قبولها مع عدم عمل جمهور من السلف ، والخلف بها كما علمت ، فإن لم نعتمد روايتها فلنا أسوة بمثل  البخاري  ، وبمن قالوا باضطرابها خلافا للنووي  ، وإن لم نعتمد معناها فلنا أسوة بمن ذكرنا من الصحابة والتابعين ومن تبعهم في ذلك كالحنفية وهي عند مسلم  من رواية عمرة  ، عن عائشة  ، أو ليس رد عمرة  ، وعدم الثقة بها أولى من القول بنزول شيء من القرآن لا تظهر له حكمة ، ولا فائدة ، تم نسخه ، أو سقوطه ، أو ضياعه ، فإن عمرة  زعمت أن عائشة  كانت ترى أن الخمس لم تنسخ ، وإذا لا نعتد بروايتها ، وإذا كان الأمر كذلك ، فالمختار التحريم بقليل الرضاع وكثيره إلا المصة والمصتين  إذ لا تسمى رضعة في الغذاء ، وبمعناها الإملاجة والإملاجتان ، فإنه من ملج الوليد الثدي إذا مصه وأملجته إياه جعلته يملجه ، فإن رضع رضعة تامة ثبتت بها الحرمة وبهذا يجمع بين الأحاديث . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					