وفي الرضاع المحرم للنكاح بحث آخر يتعلق بسن الرضيع ، فقد ذهب بعض علماء الأمة إلى أن الرضاع لا يؤثر إلا في سنه ، ومدته المحدودة  بقوله - تعالى - : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة    [ 2 : 233 ] وصح هذا القول عن عمر  ،  وابن مسعود  ،  وأبي هريرة  ،  وابن عباس  ،  وابن عمر  من علماء الصحابة وهو مذهب  الشافعي   [ ص: 389 ] وأحمد  ، وصاحبي أبي حنيفة  أبي يوسف  ومحمد  ، ورواية عنه ، ومذهب جمهور الظاهرية    . 
وروي عن جماعة من علماء التابعين  كسعيد بن المسيب  ،  والشعبي  ، وقال بعضهم : إن الرضاع المحرم ما كان قبل الفطم ، فإن فطم الرضيع ، ولو قبل السنتين امتنع تأثير رضاعه ، وإن استمر رضاعه إلى ما بعد السنتين ، ولم يفطم كان رضاعه محرما ، وصح هذا القول عن  أم سلمة  من أمهات المؤمنين ، وعن  ابن عباس  في الرواية الأخرى ، وروايته عن علي  لم تصح ، وقال به من التابعين  الزهري  ، والحسن  ، وقتادة  ، وهو مذهب  الأوزاعي  على تفصيل له في الفطام لحول ثم الرضاع في أثناء الثاني ، قال : إن تمادى فيه كان محرما ، وإلا فلا . وقال بعضهم : إن الرضاع يؤثر في الصغر دون الكبر ، ولم يذكروا تحديدا ، وهذه الأقوال متقاربة . 
وذهب بعض السلف ، والخلف إلى التحريم برضاع الكبير  ، وإن كان شيخا ، وهذا مذهب عائشة  ، ويروى عن علي  أيضا ، وقال به عروة  ، وعطاء  ،  والليث بن سعد  ، وأبو محمد بن سعد  ، وعمدتهم في ذلك حديث عائشة  عند مسلم  ، وأبي داود  في واقعة سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي  ، وهو مروي بعدة ألفاظ مختصرة في مسلم  ، ومفصلة في سنن أبي داود  ، وفي التفصيل فائدة تبين ما في الواقعة من الإجمال ، وتجلي ما قاله العلماء فيها ، فيعرف أمثلها ، وهو أن "  أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس  كان تبنى سالما  ، وهو مولى لامرأة من الأنصار  ، وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة  ، فكان يدعى ابنه ، فلما حرم الإسلام التبني صار سالم أجنبيا من أبي حذيفة  وأهله فشق عليهم فراقه ، وشق عليه وصار من الحرج دخوله على بيت أبي حذيفة  كما كان يدخل ، وامرأته في مهنتها لا تستغني عن إبداء شيء من زينتها التي حرم الله إبداءاها لغير المحارم ، فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله فقالت : يا رسول الله ، إنا كنا نرى سالما ولدا ، وكان يأوي معي ، ومع أبي حذيفة  في بيت واحد ، ويراني فضلا ( أي في فضل الثياب التي تلبس وقت الشغل ، أو النوم ) ، وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه ؟ هذا سياق أبي داود  ، وفي لفظ لمسلم  أنها قالت : وفي نفس أبي حذيفة  منه شيء ، وفي رواية : إني أرى في وجه أبي حذيفة  من دخول سالم  تعني من حل دخوله بعد تحريم التبني لا من الريبة ، وسوء الظن في عفته ، فإنه كان منهم مكان الابن من قوة دينه ، وتقواه في الإسلام ، وكذلك كانت هي ، وهي من المهاجرات الفاضلات . فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ترضعه خمس رضعات ، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة . قال بعضهم : لعل المراد أنها سقته لبنها في إناء . 
يعارض هذا الحديث في معناه ما أخذ به الجمهور من حديث عائشة  في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما الرضاعة من المجاعة وحديث  أم سلمة  الذي صححه الترمذي  وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي  ، وكان قبل الفطام ومعنى " في الثدي " في زمنه أي سن الرضاعة ، وحديث  ابن مسعود   [ ص: 390 ] عند أبي داود  وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم   " يروى " أنشر " بالراء أي بسطه ، ومده ، وأنشز بالزاي ومعناه رفعه . وبسط العظام وارتفاعها كلاهما يكونان بنموها ، والكبير لا تنمو عظامه ، وترتفع بالرضاع ، وإن كان له فيه شيء من الغذاء - وحديث  ابن عباس  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا رضاع إلا ما كان في الحولين رواه  الدارقطني  في سننه بإسناد صحيح . وأفتى بذلك غير واحد من علماء الصحابة . 
قال بعض الذاهبين إلى عدم تحريم الرضاع في الكبر  لاسيما بعد الحولين : إن حديث سهلة بنت سهيل  منسوخ ; لأنه كان في أول الهجرة حين حرم التبني ، وإن خفي نسخه عن عائشة  ، وقال بعضهم : إنه خاص بسالم  ، والتخصيص معهود في كل الحكومات المقيدة بالقوانين ويسمونه الاستثناء . وقال ابن تيمية    : ليس حديث سهلة  بمنسوخ ، ولا مخصوص بسالم  ، ولا عام في حق كل أحد ، وإنما هو رخصة لمن كان حاله مثل حال سالم  مع أبي حذيفة  ، وأهله في عدم الاستغناء عن دخوله على أهله ; أي مع انتفاء الريبة . ومثل هذه الحاجة تعرض للناس في كل زمان فكم من بيت كريم يثق ربه برجل من أهله ، أو من خدمه قد جرب أمانته ، وعفته ، وصدقه معه فيحتاج إلى إدخاله على امرأته ، أو إلى جعله معها في سفر ، فإذا أمكن صلته به ، وبها بجعله ولدا لهما في الرضاعة بشرب شيء من لبنها مراعاة لظاهر أحكام الشرع مع عدم الإخلال بحكمتها ألا يكون أولى ! بلى وإن هذا اللبن ليحدث في كل منهم عاطفة جديدة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					