( فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين     ) فاعف عما سلف من هؤلاء القليل ، واصفح عن مسيئهم ، وعاملهم بالإحسان الذي يحبه الله تعالى ، وأنت أيها الرسول أحق الناس بتحري ما يحبه الله ، وهذا رأي أبي مسلم    . أو : فاعف عما سلف من جميعهم واضرب عنه صفحا إيثارا للإحسان والفضل على ما يقتضيه العدل . قيل : كان هذا أمرا مطلقا ، ثم نسخ بآية التوبة : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر    ) ( 9 : 29 ) الآية ، وروي هذا عن قتادة  ، ويرده قتال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود  قبل نزول التوبة ، وكون آية التوية نزلت بقبول الجزية ، وهو يتفق مع العفو والصفح ، فإنهم بخيانتهم صاروا حربيين ، واستحقوا أن يقتلوا ، وقبول الجزية منهم يعد عفوا وصفحا عن قتلهم ، وإحسانا لهم . وثم وجه آخر ؛ وهو أن الأمر بالعفو والصفح إنما هو عن الخيانات الشخصية ، لا عن نقض العهد الذي يصيرون به محاربين لا يؤمن جوارهم ، وهذا أظهر من جعل الأمر بالعفو مقيدا بشرط محذوف تقديره : إن تابوا وآمنوا وعاهدوا ، أو التزموا الجزية . هذا ملخص ما يقال في رأي الجمهور . 
ولولا أن نزول هذه السورة متأخر عما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود  من القتال ، وعن نزول سورة التوبة ، لقلت يحتمل أن يكون المراد هنا يهود بني النضير  ، ومثلهم بنو قريظة  بقرينة ما جاء قبل هذا السياق من خبر محاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم غدرا منهم وخيانة ، ويكون المراد بالعفو والصفح عنهم ترك قتلهم ، والرضاء منهم بما دون القتل بعد القدرة عليه ، وهذا هو الذي وقع . 
ثبت في السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب - عندما آوى إلى المدينة    - في مصالحة اليهود  وموادعتهم ، فعقد العهد معهم على ألا يحاربوه ، ولا يظاهروا من يحاربه ، ولا يوالوا عليه عدوا له ، وأن يكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وحريتهم في دينهم ، وكان حول المدينة  منهم ثلاث طوائف : بنو قينقاع  ، وبنو النضير  ، وبنو قريظة    ; فكان بنو قينقاع  أول من غدر وتصدى لحرب النبي  صلى الله عليه وسلم جهرا ; لأنهم كانوا أشدهم بأسا ، فلما ظفر بهم وسأله   [ ص: 237 ] عبد الله بن أبي  رئيس المنافقين فيهم وهبهم له ، وكانوا حلفاء للخزرج  ، وكان هو يتولاهم وينصرهم ، وينصر غيرهم من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم ما استطاع ، وهذا ضرب من العفو والصفح . 
وأما بنو النضير  فنقضوا العهد أيضا ، وهموا بقتل النبي  صلى الله عليه وسلم فحل له قتالهم ، ولكنه اختار السلم ، وأن يكتفي أمرهم بطردهم من جواره ، فبعث إليهم " أن اخرجوا من المدينة  ، و لا تساكنوني بها ، وقد أجلتكم عشرا ، فمن وجدت بها بعد ذلك ضربت عنقه ، " فأقاموا يتجهزون أياما ، ثم ثناهم عن عزمهم عبد الله بن أبي    ; إذ أرسل إليهم ألا تخرجوا ، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم ، فيموتون دونكم ، وتنصركم قريظة  وحلفاؤكم من غطفان  ، وكان رئيسهم حيي بن أخطب  شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان أطمعهم بقتله ، وحملهم على الغدر به ، فغره قول رئيس المنافقين ، فبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم إننا لا نخرج ، فافعل ما بدا لك ، وهذا إعلان للحرب ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إليهم ، يحمل لواءه  علي بن أبي طالب  كرم الله وجهه ، فلما انتهوا إليهم أقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة وخانهم ابن أبي  ولم تنصرهم قريظة  وغطفان  فلما اشتد عليهم الحصار رضوا بالخروج سالمين ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قادرا على استئصالهم ، ولكنه اختار العفو والإحسان واكتفاء شرهم بإبعادهم عن المدينة  ، فأنزلهم على أن يخرجوا منها بنفوسهم وذراريهم وما حملت الإبل إلا السلاح ، وأجلاهم إلى خيبر    . ولا شك أن هذا ضرب من ضروب العفو والإحسان عظيم . والظاهر أن الآية نزلت بعد ذلك كله ; لأنها من آخر ما نزل ، ولم يعاقب اليهود  على خيانة ولا غدر ، ولكنه أوصى بإجلائهم عن جزيرة العرب  بعده . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					