هذا شروع في بيان خيانة اليهود في المال بعد بيان خيانتهم في الدين ، والجار والمجرور في قوله : ومن أهل الكتاب في محل رفع على الابتداء على ما مر في قوله : ومن الناس من يقول [ البقرة : 8 ] وقد تقدم تفسير القنطار . وقوله : تأمنه هذه قراءة الجمهور .
وقرأ ابن وثاب والأشهب العقيلي تيمنه بكسر التاء الفوقية على لغة بكر وتميم ، ومثله قراءة من قرأ " نستعين " بكسر النون . وقرأ نافع والكسائي ( يؤده ) بكسر الهاء في الدرج .
قال أبو عبيد : واتفق أبو عمرو والأعمش وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر على إسكان الهاء . قال النحاس : إسكان الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين ، وبعضهم لا يجيزه ألبتة ويرى أنه غلط من قرأ به ، ويوهم أن الجزم يقع على الهاء وأبو عمرو أجل من أن يجوز عليه شيء من هذا والصحيح عنه أنه كان يكسر الهاء .
وقال الفراء : مذهب بعض العرب يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها ، فيقولون : ضربنه ضربا شديدا كما يسكنون ميم أنتم وقمتم ، وأنشد :
لما رأى أن لا دعه ولا شبع مال إلى أرطاه حقف فاضطجع
وقرأ أبو المنذر سلام والزهري يؤده بضم الهاء بغير واو . وقرأ قتادة وحمزة ومجاهد يؤدهو بواو في الإدراج ، ومعنى الآية : أن أهل الكتاب فيهم الأمين الذي يؤدي أمانته وإن كانت كثيرة ، وفيهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته وإن كانت حقيرة ، ومن كان أمينا في الكثير فهو في القليل أمين بالأولى ، ومن كان خائنا في القليل فهو في الكثير خائن بالأولى .
وقوله : إلا ما دمت عليه قائما استثناء مفرغ ، أي لا يؤده إليك في حال من الأحوال إلا ما دمت عليه قائما مطالبا له مضيقا عليه متقاضيا لرده ، والإشارة بقوله : ذلك إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله : لا يؤده .
والأميون هم العرب الذين ليسوا أهل كتاب ; أي : ليس علينا في ظلمهم حرج لمخالفتهم لنا في ديننا ، وادعوا لعنهم الله أن ذلك في كتابهم ، فرد الله سبحانه عليهم بقوله : ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى أي بلى عليهم سبيل لكذبهم واستحلالهم أموال العرب . فقوله : بلى إثبات لما نفوه من السبيل .
قال الزجاج : تم الكلام بقوله : بلى ثم قال : من أوفى بعهده واتقى وهذه جملة مستأنفة ; أي : من أوفى بعهده واتقى فليس من الكاذبين . أو فإن الله يحبه ، والضمير في قوله : بعهده راجع إلى من ، أو إلى الله تعالى ، وعموم المتقين قائم مقام العائد إلى من ، أي : فإن الله يحبه .
قوله : إن الذين يشترون بعهد الله أي : يستبدلون كما تقدم تحقيقه غير مرة . وعهد الله هو ما عاهدوه عليه من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والأيمان هي التي كانوا يحلفون أنهم يؤمنون به وينصرونه ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية ، أولئك أي : الموصوفون بهذه الصفة لا خلاق لهم في الآخرة أي : لا نصيب ولا يكلمهم الله بشيء أصلا [ ص: 227 ] كما يفيده حذف المتعلق من التعميم ، أو لا يكلمهم بما يسرهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة نظر رحمة ، بل يسخط عليهم ويعذبهم بذنوبهم كما يفيده قوله : ولهم عذاب أليم .
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله : ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك قال : هذا من النصارى ومنهم من إن تأمنه بدينار قال : هذا من اليهود إلا ما دمت عليه قائما قال : إلا ما طلبته واتبعته . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل قال : قالت اليهود : ليس علينا فيما أصبنا من مال العرب سبيل .
وأخرج ابن جرير عن السدي نحوه . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كذب أعداء الله ، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين ، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن صعصعة أنه سأل ابن عباس فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ، قال ابن عباس : فتقولون ماذا ؟ قال : نقول : ليس علينا في ذلك من بأس ، قال : هذا كما قال ابن عباس : ليس علينا في الأميين سبيل إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب نفوسهم . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس بلى من أوفى بعهده واتقى يقول : اتقى الشرك فإن الله يحب المتقين يقول : الذين يتقون الشرك .
وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان . فقال الأشعث بن قيس : في والله كان ذلك ، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني ، فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألك بينة ؟ قلت : لا ، قال لليهودي : احلف ، فقلت : يا رسول الله إذن يحلف فيذهب مالي ، فأنزل الله إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية .
وقد روي : أن سبب نزول الآية أن رجلا كان يحلف بالسوق : لقد أعطى بسلعته ما لم يعط بها . أخرجه البخاري وغيره .
وروي أن سبب نزولها مخاصمة كانت بين الأشعث وامرئ القيس ورجل من حضرموت . أخرجه النسائي وغيره .


