[ ص: 62 ] الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس المطر .
ومعناه في اللغة : طلب السقيا .
وفي الشرع : ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صفته من الصلاة والدعاء .
والحجر يحتمل أن يكون حجرا معينا فتكون اللام للعهد ، ويحتمل أن لا يكون معينا فتكون للجنس ، وهو أظهر في المعجزة وأقوى للحجة .
وقوله : ( فانفجرت ) الفاء مترتبة على محذوف تقديره فضرب فانفجرت ، والانفجار : الانشقاق ، وانفجر الماء انفجارا تفتح ، والفجرة : موضع تفتح الماء .
قال ابن عطية : ولا خلاف أنه كان حجرا مربعا يخرج من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى سالت العيون ، وإذا استغنوا عن الماء جفت .
والمشرب : موضع الشرب ، وقيل : هو المشروب نفسه .
وفيه دليل على أنه يشرب من كل عين قوم منهم لا يشاركهم غيرهم .
قيل : كان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها إلى غيرها ، والأسباط ذرية الاثني عشر من أولاد يعقوب .
وقوله : كلوا أي قلنا لهم : كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المتفجر من الحجر .
وعثا يعثي عثيا ، وعثا يعثو عثوا ، وعاث يعيث عيثا ، لغات : بمعنى أفسد .
وقوله : ( مفسدين ) حال مؤكدة .
قال في القاموس : عثي كرمي ، وسعى ورضي ، عثيا وعثيانا ، وعثا يعثو عثوا : أفسد : وقال في الكشاف : العثي أشد الفساد .
فقيل لهم : لا تمادوا في الفساد في حال فسادكم ؛ لأنهم كانوا متمادين فيه انتهى .
قوله : لن نصبر على طعام واحد تضجر منهم بما صاروا فيه من النعمة والرزق الطيب والعيش المستلذ ، ونزوع إلى ما ألفوه قبل ذلك من خشونة العيش :
إن الشقي بالشقاء مولع لا يملك الرد له إذا أتى
ويحتمل أن لا يكون هذا منهم تشوقا إلى ما كانوا فيه ، ونظرا لما صاروا إليه من العيشة الرافهة ، بل هو باب من تعنتهم ، وشعبة من شعب تعجرفهم كما هو دأبهم وهجيراهم في غالب ما قص علينا من أخبارهم .
وقال الحسن البصري : إنهم كانوا أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم : أي أصلهم عكر السوء ، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا : لن نصبر على طعام واحد والمراد بالطعام الواحد هو المن والسلوى ، وهما وإن كانا طعامين لكن لما كانوا يأكلون أحدهما بالآخر جعلوهما طعاما واحدا .
وقيل : لتكررهما في كل يوم وعدم وجود غيرهما معهما ولا تبدلة بهما .
ومن في قوله : ( مما تنبت ) - تخرج - قال الأخفش : زائدة ، وخالفه سيبويه لكونها لا تزاد في الكلام الموجب .
قال النحاس : وإنما دعا الأخفش إلى هذا لأنه لم يجد مفعولا ل ( يخرج ) فأراد أن يجعل ما مفعولا ، والأولى أن يكون المفعول محذوفا دل عليه سياق الكلام : أي تخرج لنا مأكولا .
وقوله : من بقلها بدل من ما بإعادة الحرف ، والبقل : كل نبات ليس له ساق ، والشجر : ما له ساق .
قال في الكشاف : البقل ما أنبتته الأرض من الخضر ، والمراد به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها انتهى .
والقثاء بكسر القاف وفتحها .
والأولى قراءة الجمهور .
والثانية قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وهو معروف .
والفوم : قيل : هو الثوم ، وقد قرأه ابن مسعود بالثاء .
وروي نحو ذلك عن ابن عباس ، وقيل : الفوم الحنطة ، وإليه ذهب أكثر المفسرين ، كما قال القرطبي .
وقد رجح هذا ابن النحاس .
وقال الجوهري : الفوم الحنطة ، وممن قال بهذا الزجاج والأخفش ، وأنشد :
قد كنت أحسبني كأغنى واحد ترك المدينة عن زراعة فوم
وقال بالقول الأول الكسائي والنضر بن شميل ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومات والبصل
وقال حسان :
وأنتم أناس لئام الأصول طعامكم الفوم والحوقل
وقيل : الفوم : السنبلة ، وقيل : الحمص ، وقيل : الفوم كل حب يخبز .
والعدس والبصل معروفان .
والاستبدال : وضع الشيء موضع الآخر وأدنى قال الزجاج : إنه مأخوذ من الدنو : أي القرب والمراد : أتضعون هذه الأشياء التي هي دون موضع المن والسلوى اللذين هما خير منها من جهة الاستلذاذ والوصول من عند الله بغير واسطة أحد من خلقه ، والحل الذي لا تطرقه الشبهة وعدم الكلفة بالسعي له والتعب في تحصيله ، وقوله : اهبطوا مصرا أي انزلوا ، وقد تقدم معنى الهبوط .
وظاهر هذا أن الله أذن لهم بدخول مصر ، وقيل : إن الأمر للتعجيز لأنهم كانوا في التيه ، فهو مثل قوله تعالى : كونوا حجارة أو حديدا [ الإسراء : 50 ] ، وصرف مصر هنا مع اجتماع العلمية والتأنيث لأنه ثلاثي ساكن الوسط ، وهو يجوز صرفه مع حصول السببين ، وبه قال الأخفش والكسائي .
وقال الخليل وسيبويه : إن ذلك لا يجوز وقالا : إنه لا علمية هنا لأنه أراد مصرا من الأمصار ولم يرد المدينة المعروفة ، وهو خلاف الظاهر .
وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وطلحة بن مصرف بترك التنوين ، وهو كذلك في مصحف أبي وابن مسعود .
ومعنى ضرب الذلة والمسكنة إلزامهم بذلك والقضاء به عليهم قضاء مستمرا لا يفارقهم ولا ينفصل عنهم ، مع دلالته على أن ذلك مشتمل عليهم اشتمال القباب على من فيها ، ومنه قول الفرزدق يهجو جريرا :
ضربت عليك العنكبوت بوزنها وقضى عليك به الكتاب المنزل
ومنه قول الشاعر :
إن المروءة والشجاعة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
[ ص: 63 ] وهذا الخبر الذي أخبرنا الله به هو معلوم في جميع الأزمنة ، فإن اليهود - أقماهم الله - أذل الفرق وأشدهم مسكنة وأكثرهم تصاغرا ، لم ينتظم لهم جمع ولا خفقت على رءوسهم راية ، ولا ثبتت لهم ولاية ، بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن ، وطروقة كل فحل في كل عصر ، ومن تمسك منهم بنصيب من المال وإن بالغ في الكثرة أي مبلغ ، فهو متظاهر بالفقر مترد بأثواب المسكنة ليدفع عن نفسه أطماع الطامعين في ماله ، إما بحق كتوفير ما عليه من الجزية ، أو بباطل كما يفعله كثير من الظلمة من التجرؤ على الله بظلم من لا يستطيع الدفع عن نفسه .
ومعنى باءوا رجعوا ، يقال باء بكذا : أي رجع به ، وباء إلى المباءة : أي رجع إلى المنزل ، والبواء : الرجوع ، ويقال : هم في هذا الأمر بواء : أي سواء : يرجعون فيه إلى معنى واحد ، وباء فلان بفلان : إذا كان حقيقا بأن يقبل به لمساواته له ، ومنه قول الشاعر :
ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي محاربنا لا يبوء الدم بالدم
والمراد في الآية أنهم رجعوا بغضب من الله ، أو صاروا أحقاء بغضبه ، وقد تقدم تفسير الغضب .
والإشارة بقوله : ذلك إلى ما تقدم من حديث الذلة وما بعده بسبب كفرهم بالله وقتلهم لأنبيائه بغير حق يحق عليهم اتباعه والعمل به ، ولم يخرج هذا مخرج التقييد حتى يقال : إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال لمكان العصمة ، بل المراد نعي هذا الأمر عليهم وتعظيمه ، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر .
ويمكن أن يقال : إنه ليس بحق في اعتقادهم الباطل ، لأن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لم يعارضوهم في مال ولا جاه ، بل أرشدوهم إلى مصالح الدين والدنيا كما كان من شعيا وزكريا ويحيى ، فإنهم قتلوهم وهم يعلمون ويعتقدون أنهم ظالمون .
وتكرير الإشارة لقصد التأكيد وتعظيم الأمر عليهم وتهويله ، ومجموع ما بعد الإشارة الأولى والإشارة الثانية هو السبب لضرب الذلة وما بعده ، وقيل : يجوز أن تكون الإشارة الثانية إلى الكفر والقتل فيكون ما بعدها سببا للسبب وهو بعيد جدا ، والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : وإذ استسقى موسى لقومه قال : ذلك في التيه ، ضرب لهم موسى الحجر فصار فيها اثنتا عشرة عينا من ماء ، لكل سبط منهم عين يشربون منها .
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ومجاهد وابن أبي حاتم عن جويبر نحو ذلك .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : ولا تعثوا في الأرض قال : لا تسعوا في الأرض فسادا .
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية مثله .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : يعني ولا تمشوا بالمعاصي .
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال : لا تسيروا في الأرض مفسدين .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : لن نصبر على طعام واحد قال : المن والسلوى استبدلوا به البقل وما حكى معه .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : وفومها قال : الخبز ، وفي لفظ : البر ، وفي لفظ : الحنطة .
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : الفوم الثوم .
وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس مثله .
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن مسعود أنه قرأ " وثومها " وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه قال : قراءتي قراءة زيد ، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفا من قراءة ابن مسعود هذا أحدها " من بقلها وقثائها وثومها " .
وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : الذي هو أدنى قال : أردأ .
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : اهبطوا مصرا قال : مصرا من الأمصار .
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية : أنه مصر فرعون .
وأخرج نحوه ابن أبي داود وابن الأنباري عن الأعمش .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : وضربت عليهم الذلة قال : هم أصحاب الجزية .
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة والحسن قال : ضربت عليهم الذلة والمسكنة : أي يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال : المسكنة الفاقة .
وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : وباءوا بغضب من الله قال : استحقوا الغضب من الله .
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : وباءوا قال : انقلبوا .
وأخرج أبو داود الطيالسي وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار .


