فصل فيما ورد فيه مبينا للإجمال  
اعلم أن  الكتاب هو القرآن المتلو ؛   وهو إما نص ، وهو ما لا يحتمل إلا معنى ، كقوله - تعالى - :  فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة      ( البقرة : 196 ) وإما ظاهر وهو ما دل على معنى مع تجويز غيره .  
والرافع لذلك الاحتمال قرائن لفظية ومعنوية ، واللفظية تنقسم إلى متصلة ومنفصلة ، أما المتصلة فنوعان : نوع يصرف اللفظ إلى غير الاحتمال الذي لولا القرينة لحمل عليه ، ويسمى تخصيصا وتأويلا . ونوع يظهر به المراد من اللفظ ، ويسمى بيانا .  
فالأول كقوله - تعالى - :  وحرم الربا      ( البقرة : 275 ) فإنه دل على أن المراد من قوله - سبحانه - :  وأحل الله البيع      ( البقرة : 275 ) البعض دون الكل الذي هو ظاهر بأصل الوضع ، وبين أنه ظاهر في الاحتمال الذي دلت عليه القرينة في سياق الكلام .  
 وللشافعي     - رحمه الله - قول بإجمال البيع ؛ لأن الربا مجمل ، وهو في حكم المستثنى من البيع ،  واستثناء المجهول من المعلوم يعود بالإجمال على أصل الكلام      . والصحيح الأول ؛ فإن الربا عام في الزيادات كلها ، وكون البعض غير مراد نوع تخصيص ، فلا تتغير به دلالة الأوضاع .  
ومثال النوع الثاني قوله - تعالى - :  من الفجر      ( البقرة : 187 ) فإنه فسر مجمل قوله - تعالى - :  حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود      ( البقرة : 187 ) إذ لولا :  من الفجر   لبقي الكلام الأول على تردده وإجماله .  
وقد ورد أن بعض الصحابة كان يربط في رجله الخيط الأبيض والأسود ، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له لونهما ، فأنزل الله - تعالى - بعد ذلك :  من الفجر   فعلموا أنه أراد الليل والنهار .  
 [ ص: 348 ] وأما اللفظية المنفصلة فنوعان أيضا : تأويل وبيان .  
فمثال الأول قوله - تعالى - :  فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره      ( البقرة : 230 ) فإنه دل على أن المراد بقوله - تعالى - :  الطلاق مرتان      ( البقرة : 229 ) الطلاق الرجعي ، إذ لولا هذه القرينة لكان الكل منحصرا في الطلقتين ، وهذه القرينة وإن كانت مذكورة في سياق ذكر الطلقتين ، إلا أنها جاءت في آية أخرى ، فلهذا جعلت من قسم المنفصلة .  
ومثال الثاني  قوله - تعالى - :  وجوه يومئذ ناضرة   إلى ربها ناظرة      ( القيامة : 22 و 23 ) فإنه دل على جواز الرؤية   ويفسر به قوله - تعالى - :  لا تدركه الأبصار      ( الأنعام : 103 ) حيث كان مترددا بين نفي الرؤية أصلا ، وبين نفي الإحاطة ، والحصر دون أصل الرؤية .  
وأيضا قوله - تعالى - :  كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون      ( المطففين : 15 ) فإنه لما حجب الفجار عن رؤيته خزيا لهم دل على إثباتها للأبرار ، وارتفع به الإجمال في قوله :  لا تدركه الأبصار      ( الأنعام : 103 ) .  
وأما القرائن المعنوية فلا تنحصر ومن مثله قوله - تعالى - :  والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء      ( البقرة : 228 ) فإن صيغته صيغة الخبر ؛ ولكن لا يمكن حمله على حقيقته ، فإنهن قد لا يتربصن ، فيقع خبر الله بخلاف مخبره ، وهو محال ، فوجب اعتبار هذه القرينة حمل الصيغة على معنى الأمر صيانة لكلام الله - تعالى - عن احتمال المحال . ونظائره كثيرة فيما ورد من صيغة الخبر ؛ والمراد بها الأمر .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					