الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر .
قال أبو بكر الأنباري : قد جاء عن الصحابة والتابعين - كثيرا - الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر . وأنكر جماعة - لا علم لهم - على النحويين ذلك ، وقالوا : إذا فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلا للقرآن . وقالوا : وكيف يجوز أن يحتج بالشعر على القرآن ، وهو مذموم في القرآن والحديث ؟ ؟ ! ! .
قال : وليس الأمر كما زعموه من أنا جعلنا الشعر أصلا للقرآن ، بل أردنا تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر ; لأن الله - تعالى - قال : إنا جعلناه قرآنا عربيا [ الزخرف : 3 ] . وقال بلسان عربي مبين [ الشعراء : 195 ] .
وقال ابن عباس : الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف من القرآن - الذي أنزله الله بلغة العرب - رجعنا إلى ديوانها ، فالتمسنا معرفة ذلك منه .
[ ص: 390 ] ثم أخرج من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر ، فإن الشعر ديوان العرب .
وقال أبو عبيد في فضائله : حدثنا هشيم ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس : أنه كان يسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر .
قال أبو عبيد : يعني كان يستشهد به على التفسير .
قلت : قد روينا عن ابن عباس كثيرا من ذلك ; وأوعب ما رويناه عنه مسائل نافع بن الأزرق ; وقد أخرج بعضها ابن الأنباري في كتاب " الوقف " والطبراني في معجمه الكبير ، وقد رأيت أن أسوقها هنا بتمامها لتستفاد :
أخبرني أبو عبد الله محمد بن علي الصالحي بقراءتي عليه ، عن أبي إسحاق التنوخي ، عن القاسم بن عساكر : أنبأنا أبو نصر محمد بن عبد الله الشيرازي ، أنبأنا أبو المظفر محمد بن أسعد العراقي ، أنبأنا أبو علي محمد بن سعيد بن نبهان الكاتب ، أنبأنا أبو علي بن شاذان ، حدثنا أبو الحسين عبد الصمد بن علي بن محمد بن مكرم المعروف بابن الطسي ، حدثنا أبو سهل السري بن سهل الجنديسابوري ، حدثنا يحيى بن أبي عبيدة بحر بن فروخ المكي ، أنبأنا سعيد بن أبي سعيد ، أنبأنا عيسى بن دأب ، عن حميد الأعرج وعبد الله بن أبي بكر بن محمد عن أبيه ، قال : بينا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة ، قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن ، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر : قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به ، فقاما إليه ، فقالا : إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا ، وتأتينا بمصادقة من كلام العرب ، فإن الله - تعالى - إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين . فقال ابن عباس : سلاني عما بدا لكما ، فقال نافع :
أخبرني عن قول الله تعالى : عن اليمين وعن الشمال عزين [ المعارج : 37 ] قال العزون : حلق الرفاق .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ .
[ ص: 391 ] قال : نعم أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول :
فجاءوا يهرعون إليه حتى يكونوا حول منبره عزينا
قال : أخبرني عن قوله : وابتغوا إليه الوسيلة [ المائدة : 35 ] ، قال : الوسيلة : الحاجة .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ .
قال : نعم ، أما سمعت عنترة وهو يقول :
إن الرجال لهم إليك وسيلة إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
قال أخبرني عن قوله شرعة ومنهاجا [ المائدة : 48 ] قال : الشرعة : الدين ، والمنهاج : الطريق .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو يقول :
لقد نطق المأمون بالصدق والهدى وبين للإسلام دينا ومنهجا
قال : أخبرني عن قوله : إذا أثمر وينعه [ الأنعام : 99 ] قال : نضجه وبلاغه .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت قول الشاعر :
إذا ما مشت وسط النساء تأودت كما اهتز غصن ناعم النبت يانع
قال : أخبرني عن قوله تعالى : وريشا [ الأعراف : 26 ] قال : الريش المال .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت الشاعر يقول :
فرشني بخير طالما قد بريتني وخير الموالي من يريش ولا يبري
قال : أخبرني عن قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في كبد [ البلد : 4 ] قال : في اعتدال واستقامة .
[ ص: 392 ] قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم أما سمعت لبيد بن ربيعة وهو يقول :
يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد
قال : أخبرني عن قوله تعالى : يكاد سنا برقه [ النور : 43 ] قال : السنا : الضوء .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث ، يقول :
يدعو إلى الحق لا يبغي به بدلا يجلو بضوء سناه داجي الظلم
قال أخبرني عن قوله تعالى : وحفدة [ النحل : 72 ] قال : ولد الولد ، وهم الأعوان .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت الشاعر يقول :
حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأحمال
قال : أخبرني عن قوله تعالى : وحنانا من لدنا [ مريم : 13 ] . قال : رحمة من عندنا .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ .
قال : نعم ، أما سمعت طرفة بن العبد يقول :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
قال : أخبرني عن قوله تعالى : أفلم ييأس الذين آمنوا [ الرعد : 31 ] قال : أفلم يعلم ، بلغة بني مالك .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ .
قال : نعم ، أما سمعت مالك بن عوف يقول :
لقد يئس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
قال : أخبرني عن قوله تعالى : مثبورا [ الإسراء : 102 ] قال : ملعونا محبوسا من الخير .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ .
قال : نعم ، أما سمعت عبد الله بن الزبعرى يقول :
إذ أتاني الشيطان في سنة النو م ومن مال ميله مثبورا
قال : أخبرني عن قوله تعالى : فأجاءها المخاض [ مريم : 23 ] قال : ألجأها .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ .
قال : نعم ، أما سمعت حسان بن ثابت يقول :
إذ شددنا شدة صادقة فأجأناكم إلى سفح الجبل


