باب اختلافهم في الاستعاذة  
والكلام عليها من وجوه ( الأول ) في صيغتها وفيه مسألتان :  
( الأولى ) أن المختار لجميع القراء من حيث الرواية ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) كما ورد في سورة النحل فقد حكى الأستاذ   أبو طاهر بن سوار  وأبو العز القلانسي  وغيرهما الاتفاق على هذا اللفظ بعينه ، وقال الإمام   أبو الحسن السخاوي  في كتابه " جمال القراء " إن الذي عليه إجماع الأمة هو : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ، وقال   الحافظ أبو عمرو الداني  أنه هو المستعمل عند  الحذاق  دون غيره ، وهو المأخوذ به عند عامة الفقهاء :   كالشافعي  وأبي حنيفة  وأحمد  وغيرهم ، وقد ورد النص بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ففي الصحيحين من حديث   سليمان بن صرد     - رضي الله عنه - قال :  استب رجلان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجده - لو قال -  أعوذ بالله من الشيطان الرجيم      . الحديث لفظ      [ ص: 244 ]  البخاري  في باب الحذر من الغضب في كتاب الأدب ، ورواه   أبو يعلى الموصلي  في مسنده عن   أبي بن كعب     - رضي الله عنه - ، وكذا رواه   الإمام أحمد   والنسائي  في عمل اليوم والليلة ، وهذا لفظه نصا ،  وأبو داود  ورواه أيضا  الترمذي  من حديث   معاذ بن جبل  بمعناه . وروي هذا اللفظ من التعوذ أيضا من حديث   جبير بن مطعم ،  ومن حديث   عطاء بن السائب  عن  السلمي  عن   ابن مسعود     . وقد روى  أبو الفضل الخزاعي  عن  المطوعي  عن   الفضل بن الحباب  عن  روح بن عبد المؤمن ،  قال : قرأت على   يعقوب الحضرمي  فقلت : أعوذ بالسميع العليم . فقال لي : قل ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) فإني قرأت على  سلام بن المنذر  فقلت : أعوذ بالسميع العليم فقال لي : قل ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) فإني قرأت على   عاصم بن بهدلة  فقلت : أعوذ بالسميع العليم فقال لي : قل ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) فإني قرأت على   زر بن حبيش  فقلت : أعوذ بالسميع العليم فقال لي : قل ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) فإني قرأت على   عبد الله بن مسعود  فقلت : أعوذ بالسميع العليم فقال لي : قل ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )  فإني قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : أعوذ بالسميع العليم فقال لي : يا   ابن أم عبد  قل ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) هكذا أخذته عن  جبريل   عن  ميكائيل   عن اللوح المحفوظ     .  
حديث غريب جيد الإسناد من هذا الوجه ( ورويناه مسلسلا ) من طريق  روح  أيضا قرأت على الشيخ الإمام العالم العارف الزاهد  جمال الدين أبي محمد ،  محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن الجمالي   النسائي  مشافهة فقلت : أعوذ بالسميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على الشيخ الإمام شيخ السنة  سعد الدين محمد بن مسعود بن محمد الكارزيني  فقلت : أعوذ بالسميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على  أبي الربيع علي بن عبد الصمد بن أبي الجيش     : أعوذ بالسميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على والدي : أعوذ بالسميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على  محيي الدين أبي محمد   [ ص: 245 ] يوسف بن عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي  أعوذ بالسميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على والدي أعوذ بالسميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على  أبي الحسن علي بن يحيى البغدادي  أعوذ بالسميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على   أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري     : أعوذ بالسميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على  هناد بن إبراهيم النسفي     : أعوذ بالسميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على  محمود بن المثنى بن المغيرة     . أعوذ بالله السميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على  أبي عصمة محمد بن أحمد السجزي     : أعوذ بالله السميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على أبي  محمد عبد الله بن عجلان بن عبد الله الزنجاني     : أعوذ بالله السميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على  أبي عثمان سعيد بن عبد الرحمن الأهوازي     : أعوذ بالله السميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على  محمد بن عبد الله بن بسطام     : أعوذ بالله السميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على  روح بن عبد المؤمن     : أعوذ بالله السميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على   يعقوب بن إسحاق الحضرمي     : أعوذ بالله السميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على  سلام بن المنذر     : أعوذ بالله السميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على   عاصم بن أبي النجود     : أعوذ بالله السميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على   زر بن حبيش     : أعوذ بالله السميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على   عبد الله بن مسعود     : أعوذ بالله السميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .  فإني قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أعوذ بالله السميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله      [ ص: 246 ] من الشيطان الرجيم . فإني قرأت على  جبريل      : أعوذ بالله السميع العليم فقال لي : قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ثم قال لي :  جبريل   هكذا أخذت عن  ميكائيل   وأخذها  ميكائيل   عن اللوح المحفوظ     .  
( وقد أخبرني ) بهذا الحديث أعلى من هذا شيخاي الإمامان ، الولي الصالح  أبو العباس أحمد بن رجب المقرئ  وقرأت عليه ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، والمقرئ المحدث الكبير  يوسف بن محمد السومري  البغداديان فيما شافهني به ، وقرأ على  أبي الربيع بن أبي الحبش  المذكور ، وأخبرني به عاليا جدا جماعة من الثقات منهم  أبو حفص عمر بن الحسن بن مزيد بن أميلة المراغي ،  وقرأت عليه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، عن شيخه الإمام  أبي الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد بن البخاري ،  قال : أخبرنا الإمام   أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي  في كتابه فذكره بإسناده ، وروى  الخزاعي  أيضا في كتابه المنتهى بإسناد غريب  عن  عبد الله بن مسلم بن يسار  قال : قرأت على   أبي بن كعب  فقلت : أعوذ بالله السميع العليم فقال : يا بني عمن أخذت هذا ؟ قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كما أمرك الله عز وجل     .  
( الثانية ) دعوى  الإجماع على   هذا اللفظ بعينه مشكلة والظاهر أن المراد على أنه المختار فقد ورد تغيير هذا اللفظ والزيادة عليه والنقص منه كما سنذكره ونبين صوابه ( وأما أعوذ ) فقد نقل عن  حمزة  فيه ، أستعيذ ، ونستعيذ ، واستعذت ، ولا يصح ، وقد اختاره بعضهم كصاحب الهداية من الحنفية قال : لمطابقة لفظ القرآن يعني قوله تعالى : (  فاستعذ بالله      ) وليس كذلك وقول  الجوهري     : عذت بفلان واستعذت به ، أي : لجأت إليه ، مردود عند أئمة اللسان ، بل لا يجزي ذلك على الصحيح كما لا يجزي : أتعوذ ، ولا تعوذت ، وذلك لنكتة ذكرها الإمام  الحافظ العلامة أبو أمامة محمد بن علي بن عبد الرحمن بن النقاش     - رحمه الله تعالى - في كتابه ( اللاحق السابق والناطق الصادق ) في التفسير فقال :  بيان الحكمة التي لأجلها      [ ص: 247 ] لم تدخل السين والتاء في فعل المستعيذ الماضي والمضارع   فقد قيل له : استعذ ، بل لا يقال إلا أعوذ دون أستعيذ وأتعوذ واستعذت وتعوذت ، وذلك أن السين والتاء شأنهما منه أن الدلالة على الطلب فوردتا إيذانا بطلب التعوذ فمعنى استعذت بالله أطلب منه أن يعيذك . فامتثال الأمر هو أن يقول ، أعوذ بالله ; لأن قائله متعوذ ، أو مستعيذ قد عاذ والتجأ والقائل أستعيذ بالله ليس بعائذ ، إنما ، وهو طالب العياذ كما تقول أستخير ، أي : أطلب خيرته ، وأستقيله أي : أطلب إقالته وأستغفره وأستقيله ، أي : أطلب مغفرته ; في فعل الأمر إيذانا بطلب هذا المعنى من المعاذية ، فإذا قال المأمور : أعوذ بالله ، فقد امتثل ما طلب منه ، فإنه طلب منه نفس الاعتصام والالتجاء وفرق بين الاعتصام وبين طلب ذلك ، فلما كان المستعيذ هاربا ملتجأ معتصما بالله أتى بالفعل الدال على طلب ذلك فتأمله . قال : والحكمة التي لأجلها امتثل المستغفر الأمر بقوله لها : أستغفر الله أنه يطلب المغفرة التي لا تتأتى إلا منه بخلاف العياذ واللجأ والاعتصام فامتثل الأمر بقوله : أستغفر الله ، أي : أطلب منه أن يغفر لي ، انتهى . ولله دره ما ألطفه وأحسنه ، فإن قيل فما تقول في الحديث الذي رواه   الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري  في تفسيره : حدثنا  أبو كريب ،  ثنا   عثمان بن سعيد ،  ثنا  بشر بن عمارة ،  ثنا   أبو روق ،  عن  الضحاك ،  عن   عبد الله بن عباس  قال :  أول ما نزل  جبريل   على  محمد      - صلى الله عليه وسلم - قال : يا  محمد   استعذ ، قال :  أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم      . ثم قال : بسم الله الرحمن الرحيم . اقرأ باسم ربك ؟  قلت : ما أعظمه مساعدا لمن قال به لو صح فقد قال شيخنا  الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير     - رحمه الله - بعد إيراده : وهذا إسناد غريب . قال : وإنما ذكرناه ليعرف ، فإن في إسناده ضعفا وانقطاعا . قلت : ومع ضعفه وانقطاعه وكونه لا تقوم به حجة ، فإن   الحافظ أبا عمرو الداني     - رحمه الله تعالى - رواه على الصواب من حديث  أبي روق  أيضا عن  الضحاك  عن   ابن عباس  أنه قال :  أول ما نزل  جبريل      - عليه السلام - على النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه      [ ص: 248 ] الاستعاذة . قال : يا  محمد   قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ثم قال : قل بسم الله الرحمن الرحيم     .  
والقصد أن  الذي تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعوذ للقراءة ولسائر تعوذاته   من روايات لا تحصى كثرة ذكرناها في غير هذا الموضع هو لفظ : أعوذ ، وهو الذي أمره الله تعالى به وعلمه إياه فقال : "  وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين   ،  قل أعوذ برب الفلق   ،  قل أعوذ برب الناس      " ، وقال عن  موسى      - عليه السلام - "  أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين   ،  إني عذت بربي وربكم      " ، وعن  مريم     - عليها السلام - "  أعوذ بالرحمن منك     " وفي صحيح  أبي عوانة  عن   زيد بن ثابت     - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل علينا بوجهه فقال : تعوذوا بالله من عذاب النار ، قلنا نعوذ بالله من عذاب النار ، قال : تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن . قلنا نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن . قال : تعوذوا بالله من فتنة الدجال . قلنا نعوذ بالله من فتنة الدجال  فلم يقولوا في شيء من جوابه - صلى الله عليه وسلم - نتعوذ بالله ، ولا تعوذنا على طبق اللفظ الذي أمروا به كما أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقل أستعيذ بالله ، ولا استعذت على طبق اللفظ الذي أمره الله به ، ولا كان - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يعدلون عن اللفظ المطابق الأول المختار إلى غيره ، بل كانوا هم أولى بالاتباع وأقرب إلى الصواب وأعرف بمراد الله تعالى ، كيف وقد علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يستعاذ فقال :  إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع : اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر فتنة المسيح الدجال     . رواه  مسلم  وغيره ، ولا أصرح من ذلك .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					