الفصل الثالث 
في فضائله  ، وهي سبعة : 
الفضيلة الأولى : التسمية    : قال صاحب الطراز : استحسنها  مالك     - رحمه الله - مرة ، وأنكرها مرة ، وقال : أهو يذبح ؟ ما علمت أحدا يفعل ذلك ، ونقل ابن شاس عنه التخيير ، وعن ابن زياد الكراهة . 
وأفعال العبد على ثلاثة أقسام : منها ما شرعت فيه التسمية ، ومنها ما لم تشرع فيه ، ومنها ما تكره فيه . 
الأول : كالغسل ، والوضوء ، والتيمم على الخلاف ، وذبح النسك ، وقراءة القرآن ، ومنه مباحات ليست بعبادات كالأكل ، والشرب ، والجماع . 
والثاني : كالصلوات ، والأذان ، والحج ، والعمرة ، والأذكار ، والدعاء . 
 [ ص: 285 ] والثالث : المحرمات ، إذ الغرض من التسمية حصول البركة في الفعل المشتمل عليها ، والحرام لا يراد كثرته ، وكذلك المكروه . 
وهذه الأقسام تتحصل من تفاريع أبواب الفقه في المذهب ، فما ضابط ما شرع فيه التسمية من القربات ، والمباحات مما لم يشرع فيه ؟ 
قلت : وقع البحث في هذا الفصل مع جماعة من الفضلاء ، وعسر الفرق ، وإن كان بعضهم قد قال : إنها لم تشرع مع الأذكار ، وما ذكر معها لأنها بركة في نفسها . 
ورد عليه أن القرآن من أعظم البركات مع أنها شرعت فيه . 
والأصل في شرعيتها في الوضوء قوله عليه الصلاة والسلام ( لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه   ) خرجه  أبو داود  ، والترمذي إلا أنه لا أصل له ، وقال   ابن حنبل  بوجوبها مع أن الترمذي قال عنه : لا أعرف في هذا الباب حديثا جيد الإسناد . 
الفضيلة الثانية : في الجواهر : السواك  ؛ لما في الموطأ أنه عليه السلام قال : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة   ) وفي  أبي داود  كان يوضع له - صلى الله عليه وسلم - وضوؤه ، وسواكه   . 
والكلام في وقته ، وآلته ، وكيفيته . 
أما وقته ، فقال صاحب الطراز : يستاك قبل الوضوء  ، ويتمضمض بعده ليخرج الماء بما ينثره السواك ، ولا يختص السواك بهذه الحالة بل في الحالات التي يتغير فيها الفم كالقيام من النوم ، أو بتغيير الفم لمرض ، أو وجع ، أو صمت كثير ، أو مأكول متغير . 
وأما الآلة ، فهي عيدان الأشجار لأنه سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنة السلف ، أو بأصبعه إن لم يجد ، ويفعل ذلك مع الماء في المضمضة لأنه يخفف القلح . 
 [ ص: 286 ] والقلح صفرة الأسنان ، فإن استاك بأصبع ، فجعلها سواكا للسن أولى من جعل السن سواكا للأصبع ، ويتجنب من السواك ما فيه أذى للفم كالقصب ، فإنه يجرح اللثة ، ويفسدها ، وكالريحان ، ونحوه مما يقول الأطباء فيه فساد ، وقد نص على ذلك جماعة من العلماء . 
وأما كيفيته فيروى عنه عليه الصلاة والسلام : ( استاكوا عرضا ، وادهنوا غبا - أي يوما بعد يوم - واكتحلوا ، وترا   ) ، فالسواك عرضا أسلم للثة من التقطع ، والأدهان إن كثرت تفسد الشعر ، وتنثره . 
والسواك ، وإن كان معقول المعنى ، فعندي أنه ما عري من شائبة تعبد من جهة أن الإنسان لو استعمل الغسولات الجلاءة عوضا من العيدان لم يأت بالسنة . 
الفضيلة الثالثة : في التلقين : تكرار المغسول  ، وقوله في الكتاب : لم يوقت  مالك     - رحمه الله - في التكرار إلا ما أسبغ . قال صاحب الطراز وغيره : يريد به نفي الوجوب لا نفي الفضيلة ، وكذلك قال : وقد اختلفت الآثار في التوقيت ، قال صاحب التنبيهات : التوقيت التقدير من الوقت ، وهو المقدار من الزمان ، فمعناه لم يقدر عددا قال : ومن الناس من قال : معناه : لم يوجب ؛ من قوله تعالى : ( كتابا موقوتا    ) أي : فرضا لازما ، وليس بصواب ، وروي عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة ، وقال : ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به   ) فأثبت القبول عند ثبوته ، فدل ذلك على عدم وجوب غيره ، ويروى عنه عليه السلام : ( مرتين مرتين ، وثلاثا ثلاثا ) أخرجه   البخاري  ،  ومسلم  ، قال  اللخمي     : فالأولى واجبة ، والثانية سنة ، والثالثة فضيلة ، والرابعة مخترعة إذا أتى بها عقيب الثالثة ، أو بعد ذلك ، وقبل الصلاة بذلك الوضوء ، فإن صلى به كان تجديد الوضوء فضيلة لقوله عليه السلام : ( الوضوء على الوضوء نور على نور   ) وقوله في الرابعة :   [ ص: 287 ]   ( فمن زاد ، أو استزاد ، فقد تعدى وظلم ) ، والتجديد زيادة فيجمع بينهما بهذه الطريقة ، ودليل تحريم الرابعة قوله عليه السلام لما توضأ ثلاثا    : ( هذا وضوئي ، ووضوء الأنبياء من قبلي ، ووضوء أبي إبراهيم  ، فمن زاد ، أو استزاد ، فقد تعدى وظلم   ) قال صاحب المقدمات قال   الأصيلي     : ليس هذا بثابت . 
والوضوء من خصائص هذه الأمة قال  ابن رشد     : إن صح الحديث فيكون معنى ما روي في الغرة ، والتحجيل ، ويكون الاختصاص بالغرة لا بالوضوء ، وأما قوله عليه السلام : ( فمن زاد ، أو استزاد ) فيحتمل معنيين : أحدهما التأكيد ، ويكون المراد بهما واحدا ، والثاني : أن يكون استزاد من باب الاستفعال ، وهو طلب الفعل ، والإنسان له حالتان : تارة يتوضأ بنفسه فيقال : إنه زاد الرابعة ، وتارة يستعين بغيره في سكب الماء ، وغيره فيطلب من ذلك الغير زيادة الرابعة فيقال : له استزاد . 
وجوز  مالك     - رحمه الله - في المدونة الاقتصار على الواحدة ، وقال أيضا : لا أحبها إلا من عالم ، يعني لأن من شرط الاقتصار عليها الإسباغ ، وذلك لا يضبطه إلا العلماء ، وإذا لم يسبغ ، وأسبغ في الثانية كان بعض الثانية فرضا ، وهو ما حصل به الإسباغ في بقية الأولى ، وبقيتها فضيلة ، وهو ما عدا ذلك ، وإلى أن يأتي برابعة تختص بها المواضع المتروكة أولا ، ولا تعم لئلا يقع في النهي . 
فرع : في الجواهر : إذا شك في أصل الغسل  ابتدأه لأنه في عهدة الواجب حتى يفعله ، وإن شك هل هي ثالثة ، أو رابعة ؟ قال  المازري     : تنازع الأشياخ في فعلها هل تكره مخافة أن تكون محرمة ، أو لا تكره ; لأن الأصل بقاء المأمور به من الطهارة متوجها على الإنسان ، والبناء على اليقين في الطهارة ، وركعات الصلاة من العدد فيصلي الركعة ، وإن شك هل هي رابعة واجبة ، أو خامسة محرمة ، ويلحق بهذا صوم التاسع من ذي الحجة إذا شك فيه ، فإنه دائر بين المندوب ، والمحرم . 
 [ ص: 288 ] قاعدة : إذا تعارض المحرم ، وغيره من الأحكام الأربعة قدم المحرم لوجهين : أحدهما أن المحرم لا يكون إلا لمفسدة ، وعناية الشرع والعقلاء بدرء المفاسد أشد من عنايتهم بتحصيل المصالح ، ولأن تقديم المحرم يفضي إلى موافقة الأصل ، وهو الترك ، فمن لاحظ هذه القاعدة قال بالترك ، ومن قال يغسل يقول : المحرم رابعة بعد ثالثة متيقنة ، ولم يتيقن ثالثة ، فلا يحرم ، وكذلك القول في الصوم ، وما أظن في الصلاة خلافا ، والله أعلم . 
الفضيلة الرابعة : الاقتصاد ، والرفق بالماء مع الإسباغ  ، والإسباغ : التعميم ، ومنه قوله تعالى : ( وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ) أي عممها . 
وأنكر  مالك  في المدونة قول من قال : حد الوضوء أن يقطر ، أو يسيل . قال ابن يونس : أي أنكر التحديد قال  مالك     : رأيت  عباسا     - قال صاحب التنبيهات :  عباس  بباء واحدة من تحتها ، وسين مهملة ، ومن الشيوخ من يقول  عياشا  بالياء ، والشين ، وهو خطأ - يتوضأ بثلث مد  هشام  ، ويفضل له منه ، ويصلي بالناس ، وأعجبني ذلك ، وفي   البخاري  كان عليه السلام يغتسل بالصاع ، ويتوضأ بالمد ، قال بعض العلماء : إذا كان المغتسل معتدل الخلق كاعتدال خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يزيد في الماء على المد في الوضوء ، والصاع في الغسل ، وإن كان ضئيلا ، فليستعمل من الماء ما يكون نسبته إلى جسده كنسبة المد والصاع إلى جسده عليه الصلاة والسلام ، فإن تفاحش الخلق ، فلا ينقص عن مقدار أن يكون نسبته إلى جسده كنسبة المد ، والصاع إلى جسده - صلى الله عليه وسلم - . 
الفضيلة الخامسة : قال  ابن يونس     : أن يجتنب الخلاء  لنهيه عليه السلام عن ذلك مخافة الوسواس . 
الفضيلة السادسة : قال ابن يونس : يجعل الإناء عن اليمين لفعله عليه   [ ص: 289 ] السلام لذلك ، ولأنه أمكن ، واعلم أن هذه المكنة إنما تتصور في الأقداح ، وما تدخل الأيدي إليه ، أما الأباريق ، فالتمكن إنما يحصل بجعله على اليسار ليسكب الماء بيساره في يمينه . 
الفضيلة السابعة : قال  ابن أبي زيد  في الرسالة : يستحب أن يقول بأثر الوضوء : اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين    . 
وقال عليه الصلاة والسلام : ( من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم رفع طرفه إلى السماء ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء   ) . 
خاتمة : قال في الكتاب : لا بأس بالمسح بالمنديل بعد الوضوء  خلافا لأصحاب   الشافعي  محتجين بما في  مسلم  أن عائشة  رضي الله عنها لما وصفت غسله عليه السلام قالت : ثم أتيته بالمنديل فرده ، وقال : ( إنه يذهب بنور الوجه   ) . 
حجتنا : ما روي عنه عليه السلام أنه كان إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه ، وفي  الترمذي  أنه عليه السلام كانت له خرقة ينشف فيها بعد الوضوء وضعفه  الترمذي  ، وقال : لا يصح في هذا الباب شيء . 
ولأن المسح يؤدي إلى النظافة ، فإن الماء إذا بقي في شعره قطر من اللحية على الثوب ، فعلق به الغبار فينطمس لونه ، وكذلك يعلق ماء رجليه بذيول ثوبه ، وحديث  مسلم  لا ينافي ما قلنا لأنا نقول بإباحة تركه ، والحديث يدل على ذلك ، والقياس معنا ؛ لما ذكرناه ، ويؤكده أن غسالة الماء نجسة عند جماعة من العلماء فيجب إزالتها على هذا التقدير . 
فرع : وإذا أبيح التنشيف ، فهل يباح قبل الفراغ ؟ قال صاحب الطراز : على رأي  ابن الجلاب  لا يجوز لقوله : ولا يجوز تفريق الطهارة من غير عذر ، وعلى المشهور يجوز ليسارته ، وفي المجموعة : قلت  لمالك  أيفعل ذلك قبل غسل رجليه قال : نعم ، وإني لأفعله . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					