مسألة : في التنعم  
قال صاحب " البيان " : قال  عمر  رضي الله : إياك والتنعم وزي العجم ، إنما قال ذلك ; لأن التنعم بالمباح يسأل عنه ، وعن حق الله تعالى فيه ، قال الله تعالى : ( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم    ) ، وفي الحديث المشهور : لتسألن عن نعيم يومكم هذا ، ورأى  عمر  رضي الله عنه   جابر بن عبد الله  ، فقال له : ما هذا معك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، قرمنا إلى اللحم فاشتريت بدرهم لحما ، فقال  عمر  رضي الله عنه : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها    )   . 
قال  مالك     : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في المدينة  منخل ينخل به دقيق  ، بل يطحن الشعير ، ثم ينفض فما طار طار وما بقي بقي ، ولكنهم اتسعوا بعد ذلك بالفتوحات ، فكان لكثير منهم أموال عظيمة ، فكانت تركة   الزبير بن العوام  خمسين ألف ألف ، ومائتي ألف بعد أداء دينه ، وهو مائتا ألف ألف ومائة ألف ، وكانوا في الحالين مشكورين ، صبروا عند القلة ، وجادوا عند الكثرة ، وكتبت لهم أجور الزكاة والنفقات ، وغير ذلك من القربات ، وكان مال   عبد الرحمن بن عوف  يقطع بالفئوس ، وناب إحدى زوجاته الأربع في نصيبها من الثمن ثمانين ألفا . 
واختلف الناس في الفقر ، والغنى  على أربعة أقوال : فقيل : الغنى أفضل ، وقيل : الفقر ، وقيل : الكفاف ، وقيل : بالوقف ، وهذا في حق من يقوم في كل حالة بما يليق بها ، أما من لا يقوم بما يتعين عليه في حالة منها فلا خلاف أن الحالة الأخرى أفضل له ، ففي الحديث : " إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ، وإن من   [ ص: 332 ] عبادي من لا يصلحه إلا الغنى   " . والفقر والغنى ليسا حسنين لذاتهما ، بل بالنسبة لآثارهما في الناس ، قال : والذي أراه تفضيل الغنى على الفقر ، وتفضيل الفقر على الكفاف ، لقوله تعالى ( واسألوا الله من فضله    ) ، وقوله تعالى : ( ووجدك عائلا فأغنى    ) ، وقوله تعالى : ( وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون    ) ، وقوله تعالى : ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا    ) ، وقال عليه السلام : " ذهب أهل الدثور بالأجور   " . وكان عليه السلام في آخر عمره على أكمل أحواله ، وكان يدخر قوت عياله سنة ، ولم يكن ذلك قبل ذلك ، ونهى عليه السلام عن إضاعة المال ، والآيات والأحاديث كثيرة جدا . 
وكل ما يتصور من الفقير من الصبر والرضا يتصور من الغني في الإيثار ، وليس كل ما يتصور من الغني من القربات يتصور من الفقير ، قال : وإنما قلت : إن الفقر أفضل من الكفاف ; لأن صاحب الكفاف يشكر الله على نعمته عليه في الكفاف ، والفقير يؤجر من وجهين : الصبر والرضا . 
احتجوا لتفضيل الفقر بقوله تعالى : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب    ) ، وبأن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ، وبقوله عليه السلام : " الفقراء أكثر أهل الجنة    " . ولأن الفقير أيسر حسابا ، وأقل سؤالا ، لا من أين اكتسبت ، وفيما أنفقت . 
 [ ص: 333 ] والجواب عن الأول : أن الأغنياء يساوونهم في الصبر على الإيسار ، ومخالفة الهوى . 
وعن الثاني : لا يلزم من سبقهم للدخول أن تكون درجتهم أعلى ولا مساوية . 
وعن الثالث : أن الفقراء أكثر في الدنيا فهم أكثر في الجنة ، ولا يلزم من ذلك علو الدرجة . 
وعن الرابع : أن السؤال يقع نعيما لقوم وعذابا لقوم ، فالمحسن يجيب بحسناته ، فينعم بذلك ، والمسيء يجيب عن السؤال بفعله ، وتصرفه الدنيء ، فيتعذب بجوابه ، فلا يضر الغني الشاكر السؤال بل ينفعه ، واحتج مفضل الكفاف بقوله عليه السلام : " اللهم ارزق آل محمد  الكفاف واجعل قوت آل محمد كفافا   " . ودخل  عباد  على  ابن هرمز  في بيته فرأى فيه أسرة ثلاثة عليها ثلاث فرش ، ووسائد ، ومجالس معصفرة ، فقال له يا  أبا بكر     : ما هذا ؟ فقال  ابن هرمز     : ليس بهذا بأس ، وليس الذي تقول بشيء ، أدركت الناس على هذا ، وقال  عمر  رضي الله عنه : إذا أوسع الله عليكم ، فأوسعوا على أنفسكم ، فما فضل عند الرجل من المال بعد أداء الواجب فلبس من رفيع الثياب ، وأكل من طيب الطعام ، وركب من جيد المراكب فحسن من غير إسراف ، فإن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده كما في الحديث ، وفي "  مسلم     " يقول الله تعالى : " يا عبدي ، أنفق أنفق عليك   " . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					