الفصل الرابع : في الجزاء  ، والأصل فيه قوله تعالى : ( ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما    ) [ المائدة 95 ] فالواجب عندنا وعند ( ش ) :   [ ص: 330 ] المثل في النعم ، كما قال تعالى ، وقال ( ح ) : القيمة لوجوه أحدها ، قوله تعالى : ( فجزاء مثل ما قتل    ) ولم يقل : جزاء ما قتل فجعل الهدي من النعم لمثل المقتول وهو القيمة فيصرف في الهدي ، وثانيها : اشتراط الحكمين ولو كان المراد المثل من النعم لاكتفى بما حكم به الصحابة - رضي الله عنهم - بل المراد : القيمة التي تختلف باختلاف الرغبات في سائر الأوقات ، وثالثها : أن الآية تسلم من التخصيص وعلى القول بالمثل من النعم يخرج ما لا مثل له كالعصافير والنمل والقمل ، وقوله تعالى : ( لا تقتلوا الصيد    ) عام فيه ، ورابعها : أنه متلف عدوانا فيسوى كسائر المتلفات ، والجواب عن الأول : أن الآية قرئت فجزاء مثل ما قتل بتنوين الجزاء وبإضافته ، والقراءتان منزلتان فيجب العمل بهما ، والجمع بينهما ما أمكن فعلى التنوين يكون المعنى فجزاء مماثل من النعم وهذا تصريح بأن المماثلة تقع بين المقتول والنعم وعلى الإضافة يحتمل ما ذكرناه ، وما ذكرتموه فيرد المحتمل إلى الصريح ، وعن الثاني : أن الصيد فيه ما هو مختلف فيه وما لم يتقرر فيه شيء وما هو مجمع عليه ، وعلى كل تقدير فقضاء الصحابة - رضوان الله عليهم - مختص بتلك الأعيان ، والوقائع التي حضرتهم ولم يوجد في النص ما يقتضي أن ذلك قاعدة كلية في أصناف تلك الصيود ، ولا أن نقلدهم بل الفعل المضارع الذي في الآية وهو قوله " يحكم به    " وكونه جزاء الشرط يقتضي وقوع ذلك في الزمان المستقبل بعد قتل الصيد المحكوم فيه ، وهذا هو الذي فهمه الصحابة - رضي الله عنهم - ولذلك لم يزالوا يقضون في النعامة ببدنة وفي حمار الوحش ببقرة ، وفي الضبع بشاة ، وفي الغزال بعنز مع اختلاف قيم المتلفات ، وتقديم مثل ذلك الحكم دل على أن المراد تجرد الحكم في كل واقعة وعدم التقليد ، وإن القيمة ملغاة فنحن نمنع التقليد فما حكم فيه ، بل إجماعهم مستند للحكمين كسائر الأحكام الاجتهادية ، ومواقع اختلافهم يجتهد فيه الحكمان في ترجيح أحد القولين والأقوال ، وما ليس فيه حكم ينظر بما وقع فيه الحكم أو ما تقتضيه المماثلة الواقعة في الآية . 
 [ ص: 331 ] وعن الثالث : أن القاعدة الأصولية : أن الضمير الخاص لا يوجب تخصيص عامه  فالضمير في قوله تعالى : ( ومن قتله منكم    ) خاص بما له مثل ولا يختص عمومه ، سلمنا التخصيص لكن التخصيص أولى من إلغاء قوله تعالى : ( من النعم    ) ( هديا بالغ الكعبة    ) ومن لبيان جنس الجزاء والهدي إنما يكون من النعم أيضا ، وإلغاء الظواهر كلها للتخصيص تعسف . 
وعن الرابع : قوله تعالى : ( أو كفارة طعام مساكين    ) وتسميته بالكفارة يمنع قياسه على المتلفات ، وإنه من باب الكفارات ، وقال ( ش ) : كل ما حكم فيه الصحابة - رضوان الله عليهم - بمثل من النعم لا يجتهد فيه ; لأنه يؤدي إلى تخطئتهم وليس مخالفا للآية ؛ ولأنه قد حكم به الصحابة ، وجوابه : لا يلزم تخطئتهم ; لأنا لا نخالفهم ، بل لا نحكم إلا بما حكموا به على ما تقدم ، ويلزمه أن يكون حكمهم ردا على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه قد نص على أن في الضبع كبشا ولم يمنعهم ذلك من الاجتهاد ، والواجب في الصيد مثله في الصورة أو ما يقاربه ، أو طعام بمثل قيمة الصيد أو صيام بقدر الطعام  لكل مد يوم وكسرة ; لأن الله تعالى سمى الجزاء كفارة ، والكفارات الإطعام فيها بعدد أيام الصيام أمدادا أو مساكين ، فإن لم يكن له مثل كالعصافير خير بين قيمته طعاما أو عدله صياما . 
تفريعات خمسة : الأول في ( الكتاب ) : يحكم في جزاء الصيد  حكمان عدلان فقيهان خلافا ل ( ش ) في الفقه ليعلما مواضع الإجماع والخلاف ، وأقضية السلف ، وما له مثل وما ليس كذلك ، ويجوز أن يكونا غير الإمام ، ولا يكتفى بالمروي ، وليبدأا بالاجتهاد ، ولا يخرجان عن آثار من مضى فإن اختلفا ابتدأا الحكم حتى يحصل فيه اثنان ، وإن أخطأا خطأ بينا كوضع الشاة موضع البدنة نقض الحكم والخيرة للمحكوم عليه فيما يحكمان به من النعم أو الطعام أو الصيام   [ ص: 332 ] يأمرهما بأيتها شاء فيحكمان به ; لأن ( أو ) في الآية للتخيير ، وقاله الأئمة ، وله أن يختار بعد الحكم غير المحكوم به فيحكم به عليه ، قال  ابن يونس     : قال  محمد     : لا بد من الحكم في كل شيء حتى الجراد ، فإن كفر بغير حكم أعاد إلا حمام مكة لا يحتاج إلى الحكم ، وأحب إلينا أن يكونا في مجلس واحد لا متعاقبين ، وتوقف  ابن القاسم  في حمام الحرم ، وفي الضب اختلاف ، فروى  ابن وهب  فيه شاة ، وروى  ابن القاسم  قيمته طعاما أو عدل ذلك صياما وكذلك ثعلب ، قال  سند     : ولا بد من لفظ الحكم والأمر بالجزاء ، ولا تكفي الفتوى لظاهر الآية ، ولا يجوز أن يكون القاتل أحدهما لظاهر الآية أن الحكمين غير المحكوم عليه ، وقال  عبد الوهاب     : ليس له الرجوع بعد الحكم إلى اختيار غير ما حكم به ; لأنه حكم بالعدل فلا ينتقض كسائر صور الحكم ، وجوابه الفرق بأن التخيير في هذه الكفارة حكم شرعي فلا يتمكن أحد من إبطاله ككفارة الحنث وإفساد رمضان ، والتخيير في مواضع الخلاف بين أقوال العلماء مستفاد من البراءة الأصلية فللحاكم والمفتي رفعه ، قال : والحكم فيما أجمع عليه الصحابة - رضوان الله عليهم - بالدليل لا بالتقليد فيكون إجماعهم دليلا ، فإن اختلفوا على قولين واستووا عند الحكمين لا يقلدان ويطلبان الترجيح . 
الثاني : في ( الجواهر ) : الواجب في النعامة  بدنة ، وكذلك الفيل لكن من الهجان العظام التي لها سنمان خراسانية ، فإن لم توجد فقيمته طعاما دون ما يشبع لحمه ، قال بعض القرويين : ليس فيه رواية ولا له نظير لكن يجعل في مركب في الماء وينظر ما نزلت به في الماء ينزل بالطعام مثل ذلك ، ولا ينظر إلى قيمته فإنها ضرر عظيم لعظمها ، وفي حمار الوحش والإبل وبقر الوحش بقرة ، وفي الضبع شاة ، وفي ( الكتاب ) : في اليربوع والضبع والأرنب ونحوه قيمته طعاما ، ويخير بين الطعام والصيام ، وفي حمام مكة  والحرام شاة . وكذلك الدنسي والقمري إن كان من   [ ص: 333 ] الحمام عند الناس ، واليمام مثل الحمام ، وأما غيره من الحمام فحكومة ، وفي الذباب والنمل شيء من الطعام ، قال  سند     : روي عن  مالك  في اليربوع والأرنب عنز ، وفي الضب شاة ، وأجمع الصحابة في الشاة في حمام مكة  ، وظاهر اللغة أن كل مطوق حمام ، وقال   ابن الماجشون     : في القمري ونحوه حكومة لاختلاف هديره مع الحمام ، وإذا عدمت الشاة في حمام مكة  صام عشرة أيام ، وليس فيه صدقة ، ولا تخيير والدبا : صغار الجراد ، ويجب في صغار الصيد من النعم مثل كباره ، وفي معيبه مثل سليمه ، وقال ( ش ) : يجب في المعيب معيب ، وفي الأعور هدي أو عور والمكسور ، ويراعى جنس العيب فلا يخرج الأعرج عن الأعور ; لقوله تعالى : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم    ) [ المائدة 95 ] واتفقوا على إجزاء الصحيح عن المعيب ، واختلفوا في إجزاء الذكر عن الأنثى . لنا : قوله تعالى : ( هديا بالغ الكعبة    ) والهدي لا يجزئ فيه الصغير ؛ ولأنه كفارة بالنص ، ولدخول الصيام فيه فلا يختلف في الصغر والكبر ككفارة الآدمي إذا قتل ، وما لا مثل له يلحق صغيره بكبيره اعتبارا بما له مثل ، وإذا أوجبنا عشر قيمة الأم فمن وسط أقل ما يجزئ . وفي ( الجواهر ) : إذا لم يستهل جنين الصيد صراخا ، قال أشهب : فيه دية بخلاف الآدميات ، وفي البيضة عشر الدية ، وقيل : حكومة . 
الثالث : في ( الكتاب ) : أدنى ما يجزئ في جزاء الصيد    : الجذع من الضأن والثني مما سواه ; لأن الله تعالى سماه هديا فيشترط فيه ما يشترط في الهدي ، وما لم يبلغ ذلك : فطعام أو صيام ، وإذا أراد الطعام قوم للصيد وقت تلفه حيا ، ويجزئ التمر والشعير إن كان طعام ذلك الموضع ، ويجزئ في الإطعام ما يجزئ في كفارات اليمين ، ويقوم الصيد ولا يقوم جزاؤه ، وقال ( ش ) : يقوم الجزاء لا الصيد بدراهم ، ثم تقوم الدراهم بطعام ; لأن كل متلف وجب مثله فإنما يجب إذا ساواه في القيمة ، وجوابه أن سائر الصور المثل فيها مساو للمتلف في الرغبات والقيمة ، وههنا قيمة البدنة مخالفة لقيمة النعامة ، والأصل : مساواة العقوبة   [ ص: 334 ] للجناية ، قال : ولو قوم الصيد بدراهم فاشترى بها طعاما أجزأه لعدم التفاوت غالبا ، والطعام أصوب ، فإن شاء الصوم صام عدد أمداد الطعام أياما بمده عليه السلام ، وإن جاوز شهورا ، والأفضل أن يصوم مكان كسر المد يوما ، وإذا أطعم فلكل مسكين مد ، ولو أعطى المساكين ثمنا أو عرضا لم يجزئه ، والفراهة والجمال لا تعتبر في تقويم الصيد بل اللحم ; لأن التحريم كان للأكل ، وإنما يؤكل اللحم بخلاف المملوكات ؛ التحريم فيها لما يتعلق به أغراض المالك فيندرج فيه الجمال وغيره ، وإذا حكم في الجزاء بثلاثين مدا فأطعم العاشر وعدم الباقي فله ذبح النسك ، وليس له أن يصوم مكان العشرة ولا تلفق الكفارة من نوعين ; لأن التخيير إنما وقع بين الأنواع ، لا بين أجزائها ، وتتابع الصيام أفضل من تفريقه ، قال  ابن يونس     : ويقوم بغالب طعام الموضع الذي قتل فيه فإن تعذر فأقرب المواضع إليه ، قال  سند     : قال  يحيى     : ينظر كم يشبع الصيد من نفس فيخرج قدر شبعهم طعاما ; لأن كثيرا من الحيوان لا قيمة له كالضبع فيتعين مراعاة المقدار ، وإذا كان رأي الحكمين رأي الحنفية فحكما بالقيمة دراهم أجزأ إذا حكما بها ، وإذا أراد الانتقال إلى خصلة من الثلاثة لتعذر الذي حكم به فلا بد من الحكم أيضا ، وقال   ابن شعبان  يتعين عليه ذلك الحكم ، ويصبر حتى يتيسر له أو ييأس فيحكم عليه بغيره . 
الرابع : في ( الكتاب ) : جزاء الصيد كالهدايا لا ينحر إلا بمكة  أو بمنى  إن وقفه بعرفة   ، وإن لم يوقفه بعرفة  سيق إلى الحل ونحر بمكة  ، وإن أوقفه بعرفة  وفاته أيام منى  نحره بمكة  ولا يخرجه إلى الحل ثانية ; لقوله تعالى : ( هديا بالغ الكعبة    ) [ المائدة 95 ] ، وإنما يحكم عليه بالطعام في الموضع الذي أصاب الصيد فيه ، ولا يطعم في غيره فإن فعل لم يجزئه ، وأما الصيام : فحيث شاء ، أما الطعام : فلأنه قيمة متلف فيتعين موضع الإتلاف ، وقال ( ش ) : يقومه بمكة  ، قال  سند     : وظاهر المذهب مراعاة الزمان أيضا ، وأما على قول  يحيى     : فيراعى الشبع خاصة ، وحمل  محمد  قوله : يطعم بموضع الإتلاف على اختلاف السعر فإن أصابه بالمدينة  وأطعم   [ ص: 335 ] بمصر  لم يجزئه إلا أن يتفق سعراهما ، فإن أصاب بمصر  وأطعم بالمدينة  أجزأه لغلاء سعرها ، وهذا الفرع يلاحظ فيه معنى نقل الزكاة من موضعها ، وإذا قلنا : يطعم بغير موضع الإتلاف : قال  ابن وهب     : يخرج بقيمة الطعام به حيث أتلف فيشتري بها طعاما غلا أو رخص ، وراعى  ابن حبيب  الأكثر من ملكية ما وجب عليه أو مبلغ قيمته ، فلو لم يحكم عليه بموضع التلف بشيء حتى رجع إلى أهله فأراد الإطعام ، فليحكم عليه اثنين ويصف لهما الصيد وسعر الطعام بموضع الصيد ، فإن تعذر عليهما تقويمه بالطعام قوماه بالدراهم ويبعث بالطعام إلى موضع الصيد ، كما يبعث بالهدايا إلى مكة  ، وعلى قول  ابن وهب     : يبتاع بتلك القيمة طعاما في بلده ، وعلى قول  ابن حبيب     : يخرج الأكثر ، وإن أراد الصوم صام على قول  ابن وهب     : بعدد ما يحفظ القيمة من أمداد الطعام بموضعه ، وعلى أصل  ابن حبيب     : يصوم بعدد ما يحفظ الأكثر وفي ( الجواهر ) : لا يجوز إخراج شيء في جزاء الصيد بغير الحرم إلا الصيام ، وحكى الشيخ  أبو إسحاق  يطعم حيث شاء ، وقيل : يطعم في موضع قتل الصيد . 
الخامس في ( الكتاب ) : إذا حكما عليه بالهدي  فله أن يهدي متى شاء ، ولكن إن قلده وهو في الحج لم ينحره إلا بمنى ، وإن قلده معتمرا بعث به إلى مكة    ; لأنه دم وجب لارتكاب محظور فهو كالكفارة في الذمة ، والهدي له تعلق بالحج فيتعين حينئذ من حيث هو هدي ، لا من حيث هو كفارة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					