القسم الثاني من الكتاب : في لزوم العقد وجوازه 
والخيار يتنوع إلى خيار المجلس ، وخيار الشرط ، وخيار النقيصة ، فهذه ثلاثة أنواع : 
النوع الأول : خيار المجلس : 
والأصل في العقود : اللزوم    ; لأن العقود أسباب لتحصيل المقاصد من الأعيان ، والأصل ترتيب المسببات على أسبابها ، وخيار المجلس - عندنا - باطل  ، والبيع لازم بمجرد العقد تفرقا أم لا . وقاله ( ح ) ، وقال ( ش ) وابن حنبل بعد اللزوم ، وخيار المجلس متى يتفرقا أو يختارا الإمضاء ، وحكاه  أبو الطاهر  عن  ابن حبيب  ، وكذلك الإجارة والصرف والسلم والصلح على غير جنس الحق ; لأنه بيع ، وعلى جنس الحق حطيطة لا بيع ، والقسمة على القول بأنها بيع لما في الموطأ : قال عليه السلام : ( المتعاقدان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار   ) وفي   البخاري     : أو يقول أحدهما للآخر : اختر ، وعنه عشرة أجوبة : 
 [ ص: 21 ] الأول : قال  محمد بن الحسن     : يحمل المتبايعان على المتشاغلين بالبيع  ، فإن باب المفاعلة شأنها اتحاد الزمان كالمضاربة ونحوها ، ويكون الافتراق بالأقوال ، فكما أن المتضاربين يصدق عليهما حالة المباشرة اللفظ حقيقة ، فكذلك المتبايعان ، ويكون الافتراق مجازا ، يدل عليه ما سيأتي من الأدلة ، ولأن ترتيب الحكم على الوصف يدل لي علية ذلك الوصف لذلك الحكم فيكون وصف المفاعلة هو علية الخيار ، فإذا انقضت بطل الخيار لبطلان سببه ، فيكون الحديث حجة عليهم لا لهم . 
الثاني : أن أحد المجازين لازم في الحديث    ; لأنا إن حملنا المتبايعين على حلة المبايعة كان حقيقة ، ويكون المجازي الافتراق فإن أصله في الأجسام ، نحو افتراق الخشبة وفوق البحر ، ويستعمل مجازا في الأقوال نحو قوله تعالى : ( وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته   ) وقوله عليه السلام : ( افترقت بنو إسرائيل  وستفترق أمتي   ) الحديث أي : بالأقوال والاعتقادات ، وإن حملنا المتبايعين على ما تقدم منه كان مجازا كتسمية الخبز برا والإنسان نطفة ، ثم في هذا المقام يمكننا الاقتصار على هذا القدر ، ونقول : ليس أحدهما أولى من الآخر ، فيكون الحديث محتملا يسقط به الاستدلال ، ولنا : ترجح المجاز الأول بكونه مقصودا بالقياس والقواعد . 
الثالث : قوله عليه السلام في بعض الطرق في  أبي داود   والدارقطني     : ( المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يفترقا ، إلا أن يكون   [ ص: 22 ] صفقة الخيار ، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله   ) فلو كان خيار المجلس مشروعا لم يحتج الإقالة . 
الرابع : المعارضة لنهيه عليه السلام عن بيع الغرر وهذا من الغرر ; لأن كل واحد منهما لا يدري ما يحصل له هل الثمن أم المثمن . 
الخامس : قوله تعالى : ( أوفوا بالعقود    ) والأمر للوجوب المنافي للخيار . 
السادس : لو صح خيار المجلس لتعذر تولي طرفي العقد  كشراء الأب لابنه الصغير والوصي والحاكم ، لكن ذلك مجتمع عليه ، فيلزم ترك العمل بالدليل على قولنا : لا يلزم ، وكذلك يلزم فيما يسرع إليه الفساد من الأطعمة كالهرايس والكناسل . 
السابع : خيار مجهول العاقبة ، فيبطل الخيار الشرط . 
الثامن : عقد وقع الرضا به فبطل خيار المجلس فيه كما بعد الإمضاء . 
التاسع : قال  أبو يوسف     : يحمل على ما إذا قال المشتري : بعني ، فقال له البائع : بعتك  ، له الخيار ما دام في المجلس ، وهذه صورة تفرد بها الحنفية فلا بد أن يقول عندهم : اشتريت ، وإن كان استدعاء للبيع ، وحملوا عليه قوله عليه السلام في   البخاري     : ( أو يقول أحدهما للآخر : اختر   ) أي : اختر الرجوع على الإيجاب أو الاسترعاء ، ونحن نحمله على اختيار شرط الخيار فيكون معنى الحديث المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا فلا خيار ، أو يقول أحدهما لصاحبه : اختر فلا تنفع الفرقة ، ولذلك لم يروا إلا بيع الخيار مع هذه الزيادة . 
 [ ص: 23 ] العاشر : عمل المدينة  وهو مقدم على خبر الواحد  ، فإن تكرر البيع عندهم مع الأنفاس فعدم خيار المجلس من بين أظهرهم يدل على مشروعيته دلالة قاطعة ، والقطع مقدم على الظن ، إذا تقرر هذا فاعلم أن القواعد والقياس معنا كما تقدم ، وقد تعارض في هذا الموضع خبر الواحد والقياس ، فلما كان شأن الحنفية  تقديم القياس قدموه هاهنا ، واختلف النقل عن  مالك  في تقديم القياس على خبر الواحد ، فنقل  عبد الوهاب  عنه تقديمه ، ونقل عنه غيره عدم تقديمه . 
فعلى الأول طرد أصله مع الحنفية  ، وعلى الثاني يكون القياس هاهنا معضودا بعمل المدينة  ، وبهذه المباحث يظهر لك نفي التشنيع عليه في كونه روى خبرا صحيحا وما عمل به ، فما من عالم إلا وترك جملة من أدلة الكتاب والسنة لمعارض راجح عنده ، وليس هذا خاصا به رضي الله عنهم أجمعين . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					