فصل : فأما تقديم هذه الدماء قبل وجوبها فهي على ضربين :  
أحدهما : ما وجب في الإحرام .  
والثاني : ما وجب في غير الإحرام ، فأما ما وجب في غير الإحرام فدمان :  
أحدهما : جزاء صيد  الحرم      .  
الثاني : جزاء شجر  الحرم   ولا يجوز تقديم هذين الدمين قبل وجوبها : لأنه ليس لوجوبها سبب متقدم ، وأما ما وجب في الإحرام فلا يجوز تقديمه قبل الإحرام : لأن سبب وجوده غير موجود ، فأما بعد الإحرام فما وجب منها بترك نسك كدم الفوات ، ودم مجاوزة الميقات ، ودم الدافع من  عرفة   قبل غروب الشمس ، ودم ترك المبيت  بمزدلفة   ، ودم رمي الجمار ، ودم تارك المبيت  بمنى   ، ودم الصادر من  مكة   بلا وداع ، فلا يجوز تقديمه قبل وجوبه ؛ لأن النسك الذي يتعلق وجوب الدم به مأمور بفعله بعد تقديم الدم ، كما كان مأمورا بفعله قبل تقديم الدم ، فلم يجز أن يكون الدم الذي لم يؤمر به لعدم وجوبه بدلا من النسك المأمور به مع إمكان فعله ، وأما ما وجب لغير نسك فضربان :  
أحدهما : ما لا يجوز استباحة موجبه بحال ، وذلك الوطء فلا يجوز تقديمه قبل وجوبه . والثاني : ما يجوز استباحة موجبه بحال ، وهو دم الطيب واللباس ، وحلق الشعر وتقليم الظفر وجزاء الصيد ففي جواز تقديمه قبل وجوبه وجهان :  
أحدهما : وهو ظاهر قوله في الأم والإملاء أن ذلك يجزئ : لأنه حق في مال يتعلق وجوبه بشيئين ، وهما الإحرام والفعل ، فإذا وجد أحد سببيه جاز إخراجه قبل وجود السبب الآخر كالزكاة وكفارة اليمين .  
والوجه الثاني : أنه لا يجزئ لأن الإحرام وإن كان أحد سببي وجوبه فليس يراد لوجوب الدم به ، وإنما يراد لغيره ، وهو إذا نسكه فلم يكن وجوده مبيحا لتقديم الدم قبل وجوبه ، كما أن الإسلام شرط في وجوب الزكاة ، ثم لا يجوز تقديم الزكاة مع وجود الإسلام      [ ص: 229 ] وقبل وجود النصاب : لأن الإسلام ليس يراد لوجوب الزكاة ، وجاز تقديم الزكاة بعد وجود النصاب ، لأنه يراد لوجوب الزكاة والله أعلم .  
مسألة قال  الشافعي   رضي الله عنه : ولا يكون الطعام والهدي إلا  بمكة   أو  منى   ، والصوم حيث شاء ؛ لأنه لا منفعة لأهل  الحرم   في الصوم " .  
قال  الماوردي      : وجملة ذلك أن الفدية الواجبة في الحج على ثلاثة أضرب :  
أحدها : إما أن يكون هديا .  
والثاني : أن يكون طعاما .  
والثالث : أن يكون صياما ، فأما  الهدايا   من سائر الدماء الواجبة في الحج فعليه إيصالها إلى  الحرم   ونحرها فيه وتفريقه لحمها على مساكينه لقوله تعالى :  ثم محلها إلى البيت العتيق      [ الحج : 33 ] ، وقوله تعالى :  هديا بالغ  الكعبة       [ المائدة : 95 ] ، وإذا كان هكذا لم يخل حالها من أربعة أقسام إما أن ينحرها في  الحرم   ويفرقها في  الحرم   ، أو ينحرها في الحل ويفرقها في الحل ، أو ينحرها في الحل ويفرقها في  الحرم      .  
والقسم الرابع : وهو أن ينحرها من الحل ويفرق لحمها من  الحرم      . فأما القسم الأول : وهو أن ينحرها في  الحرم   ويفرق لحمها طريا في  الحرم   ، فهو الواجب المجزئ إجماعا ، ويستحب أن ينحرها من  الحرم   في الموضع الذي يتحلل فيه ، فإن كان معتمرا فعند المروة ؛ لأنه موضع تحلله ، وإن كان حاجا  فبمنى      : لأنه موضع تحلله ، وأين نحر منه فجاج  مكة   وسائر  الحرم   أجزأه ؛ لأن حرمة جميعه واحدة ، وقد روى  جعفر بن محمد ،   عن أبيه عن  جابر   أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "  عرفة   كلها موقف ومزدلفة كلها موقف ، وفجاج  مكة   كلها موقف ومنحر     . ويستحب أن يخص بها من كان قاطنا في  الحرم   دون ما كان طارئا إليه ؛ لأن القاطن فيه أوكد حرمة من الطارئ إليه ، فإن فرقها على الطارئين إليه دون القاطنين أجزأه : لأنهم قد صاروا من أهل  الحرم   بدخولهم إليه ، وليس لما يعطي كل واحد منهم قدر معلوم ولا عدد من يعطيه معلوم ، فلا يجوز أن يعطي أقل من ثلاثة مساكين ما كان يقدر عليهم لأنهم أقل الجمع المطلق .  
وأما القسم الثاني : وهو أن ينحرها في الحل ويفرقها في الحل ، فهذا غير مجزئ إجماعا ، إلا  دم الإحصار   فإنه يجزئه نحره في الموضع الذي أحصر فيه : لأنه موضع تحلله على ما سنذكره ، فأما غير دم الإحصار من سائر الدماء الواجبة فلا تجزئ ؛ لأنها لم تبلغ محلها ، ولا فرقت في مستحقيها .  
 [ ص: 230 ] وأما القسم الثالث : وهو أن ينحرها في  الحرم   ويفرق لحمها في الحل ، فلا يجزئه عندنا سواء فرقه في الحل على فقراء  الحرم   أو فقراء الحل ، وعليه إعادة الهدي . وقال  أبو حنيفة      : يجزئه استدلالا بقوله تعالى :  هديا بالغ الكعبة      [ المائدة : 195 ] فكان الظاهر يقتضي إبلاغ  الكعبة   فيجزئ ، وهذا هدي قد بلغ  الكعبة   ، فوجب بحق الظاهر أن يجزئ ولأنه جبران لنسكه ، فجاز الإتيان به في الحل  والحرم   كالصوم ؛ ولأنه موضع يجوز فيه صومه عن نسكه ، فجاز فيه تفريق هديه  كالحرم      .  
ودليلنا قوله تعالى :  هديا بالغ الكعبة      [ المائدة : 95 ] ، والمراد  بالكعبة   الحرم   ، فلما حض الله تعالى بإيصال الهدي إليه ، لم يخل أن يكون مخصوصا بالتفرقة دون الإراقة ، أو بالإراقة دون التفرقة ، أو بالإراقة والتفرقة ، فلم يجز أن يكون مخصوصا بالتفرقة دون الإراقة : لأنه لا يكون هديا بالغ  الكعبة   ، وإنما يكون لحما بالغ  الكعبة   ، ولم يجز أن يكون مخصوصا بالإراقة دون التفرقة ؛ لأنه لا يفيد إلا تنجيس  الحرم   ، وتنجيس  الحرم   ليس بقربة ، بل صيانة  الحرم   عن الإنجاس قربة ، فثبت أنه مخصوص بالإراقة والتفرقة : لما في نفع مساكين  الحرم   من عظم القربة ؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر هديه في  الحرم   وفرق لحمه على مساكينه ، وقال :  خذوا عني مناسككم  ؛ ولأن إراقة الهدي وتفريقه مقصود ثان معا ، أما الإراقة فهي مقصودة : لأنه لو اشترى في  الحرم   لحما وفرقه لم يجزئه ، وأما التفرقة فهي مقصودة ؛ لأنه لو نحر هديه ثم استهلكه لم يجزه ، وإذا كانت الإراقة والتفرقة مقصودتين ، ثم لم تجز الإراقة إلا في  الحرم   ، وجب أن لا تجز التفرقة إلا في  الحرم      .  
وتحرير ذلك قياسا : أنه أحد مقصودي الهدي ، فوجب أن لا يجزئ إلا في  الحرم   كالإراقة : ولأن الأصول في الحج موضوعة على أن كل نسك اختص شيء منه  بالحرم   ، اختص جميعه  بالحرم   كالطواف والسعي والرمي ، وكل نسك لم يختص شيء منه  بالحرم   ، لم يختص جميعه  بالحرم   كالوقوف  بعرفة   ، فلما كان شيء من الهدي مختصا  بالحرم   وجب أن يكون جميعه مختصا  بالحرم      .  
وأما قياسهم على الصوم ، فالمعنى فيه أنه لا يختص شيء من أسبابه  بالحرم   ، فلذلك جاز في غير  الحرم   ، ولما اختص شيء من الهدي  بالحرم   اختص جميعه  بالحرم      .  
أما قياسهم على  الحرم   فالمعنى في  الحرم   أن الإراقة فيه تجزئ فجازت التفرقة فيه ، والحل لما لم يجز الإراقة فيه ، لم تجز التفرقة فيه .  
وأما القسم الرابع : وهو أن ينحرها في الحل ويفرق لحمها في  الحرم   فمذهب  الشافعي   أنه لا يجزئ .  
وقال بعض أصحابنا يجزئ التفرقة في أهل  الحرم   ، وهذا خطأ خالف به نص المذهب ومقتضى الحجاج : لرواية  جعفر بن محمد   عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :      [ ص: 231 ] فجاج  مكة   كلها طرق ومنحر .  فخص النحر بموضع مخصوص ، فعلم أنه لا يجوز في غيره ؛ ولأنه أحد مقصودي الهدي ، فوجب أن لا يجزئ إلا في  الحرم   كالتفرقة ، وما ذكروه من حصول التفرقة في أهل  الحرم   ففاسد بمن اشترى لحما وفرقه في أهل  الحرم   ، فعلم أن الإراقة مقصودة مع التفرقة .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					