مسألة : قال  الشافعي      - رحمه الله تعالى - : " فكان بينا - والله أعلم - في كتابه أنه أخرج الزوج من قذف المرأة بالتعانه ، كما أخرج قاذف المحصنة غير الزوجة بأربعة شهود مما قذفها به " .  
قال  الماوردي      : اعلم أنه  لا يخلو حال القاذف لزوجته من ثلاثة أحوال      :  
أحدها : أن تصدقه على القذف ، وتصديقها أن تقر بالزنا الذي رماها به فيسقط عنه حكم القذف ، ويجوز أن  يلاعن لرفع الفراش ونفي النسب      .  
وقال  أبو حنيفة      : لا يجوز أن يلاعن إذا صدقت ؛ لأن اللعان عنده شهادة ، والشهادة لا تقام على مقر والكلام معه يأتي .  
 [ ص: 7 ] والحالة الثانية : أن  تكون منكرة للزنا لكنه يقيم البينة عليها بالزنا      . فيسقط عنه حد القذف ، ويجوز له أن  يلاعن قبل إقامة البينة وبعدها لرفع الفراش ونفي النسب   ، وقال بعض التابعين : لا يجوز أن  يلاعن مع وجود البينة   لقوله تعالى :  والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم      [ النور : 6 ] .  
والدليل على جوازه - وهو قول الجمهور - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين  العجلاني   وامرأته وبين  هلال بن أمية   وزوجته ولم يسألهما ألكما بينة أم لا ؟ فدل على جوازه في الحالين ، ولأن اللعان يفيد ما لا تفيده الشهادة من رفع الفراش ونفي النسب ، فصارت الشهادة مقصورة على إسقاط حقها ، وفي اللعان إثبات حقه وإسقاط حقها ، فجاز مع وجودها لعموم حكمه ، فأما الآية فخارجة مخرج الشرط لا مخرج الخبر .  
والحالة الثالثة : أن تكون غير مصدقة له وليس له بينة عليها بالزنا ، فيجوز أن يلاعن بإجماع ، وهي الحال التي لاعن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين  العجلاني   وامرأته وبين  هلال بن أمية   وزوجته ، وليس اللعان بواجب عليه وإن جاز له ، ولا إذا لاعن وجب اللعان عليها وإن جاز أن تلاعن ، بل الزوج بالخيار في لعانه ، فإن لم يلاعن حد للقذف ، ولا حد عليها ولا لعان ، وإن  لاعن الزوج   سقط عنه حد القذف ووجب حد الزنا عليها ، فإن لاعنت سقط عنها حد الزنا ، ولا يجبر واحد منهما على اللعان .  
وقال  أبو حنيفة      : اللعان واجب عليها ، فإن  امتنع الزوج من اللعان   يحبس حتى يلاعن ،  فإذا لاعن وجب اللعان على الزوجة   ، فإن لاعنت وإلا حبست حتى تقر ، ولا يجب الحد على واحد منهما .  
واستدل  أبو حنيفة   على وجوب اللعان عليهما وسقوط الحد عنهما بقوله تعالى :  والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله      [ النور : 6 ] الآية وفيها دليلان :  
أحدهما : أنه قابل القذف باللعان فدل على وجوبه .  
والثاني : أنه لم يورد للحد ذكرا فدل على سقوطه ، قال : ولأن وجوب الحد زيادة على النص ، والزيادة على النص تكون نسخا ، والنسخ لا يثبت بقياس ولا استدلال ، قال : ولأن الله تعالى نص على اللعان في قذف الأزواج وعلى الحد في قذف الأجانب ، فلما لم يجز نقل اللعان إلى الأجانب لم يجز نقل الحد إلى الأزواج ، قال : ولأن قذف الزوج لو أوجب عليه الحد لما جاز له إسقاطه بنفسه ، ولو وجب حد الزنا عليها كالبينة لما كان لها سبيل إلى إسقاطه عنها ، فدل ذلك على أن الحد لم يجب عليهما ، قال : ولأن اللعان القذف ، فلو كان الحد قد وجب بالقذف لما سقط بتكرار القذف .  
 [ ص: 8 ] ودليلنا قول الله تعالى :  والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة      [ النور : 4 ] فكان على عمومه في الأجانب والأزواج ، فإن قيل : هذا منسوخ في الأزواج بآية اللعان ، قيل : آية اللعان تقتضي زيادة حكم في قذف الأزواج ، وورود الزيادة لا توجب سقوط الأصل ، ويدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -  لهلال بن أمية   حين قذف زوجته :  البينة أو حد في ظهرك  يكررها عليه مرارا ، فدل على وجوب الحد في قذفه .  
فإن قيل : فهذا منسوخ بآية اللعان ؛ لأن نزولها أسقط عنه المطالبة بالحد كما أسقط عنه المطالبة بالبينة ، فاقتضى أن يكون نزولها موجبا لسقوط الحد كما كان موجبا لسقوط البينة ، قيل : هذا فاسد من وجهين :  
أحدهما : أن اللعان ، إما أن يكون يمينا على قولنا أو شهادة على قولهم ، وكلاهما لا يقعان إلا عن مطالبة بحق تقدمهما ، ولا يجبر أحد عليهما .  
والثاني : أن  سقوط الحد باللعان   لا يمنع من وجوبه عند عدم اللعان كالبينة .  
ولأن ما دل على تحقيق القذف لم يمنع عدمه من وجوب الحد كالبينة فيصير هذا الانفصال قياسا مجوزا ؛ ولأن الزوج لو أكذب نفسه بعد القذف وجب عليه الحد بوفاق  أبي حنيفة   ، فلولا وجوبه قبل الإكذاب لما جاز أن يجب عليه بالإكذاب ، لأن تكذيب نفسه تنزيه لها من القذف ، فلم يجز أن يجب به حد القذف .  
وتحرير هذا الاستدلال قياسا : أن كل قاذف وجب الحد عليه بإكذاب نفسه ، وجب الحد عليه بابتداء قذفه كالأجنبي ، ولأن كل قذف وجب به الحد على غير الزوج ، وجب به الحد على الزوج كالعبد والمكاتب .  
فإن قيل :  العبد والمكاتب ممن لا يصح اللعان منهما   ، قيل : عندنا يصح اللعان منهما فلم تسلم هذه الممانعة ، ثم تفسد عليهم بالحر إذا كان تحته أمة وهو من أضل اللعان ، ولا حد عليه في هذا القذف .  
فأما الجواب عن وجهي استدلالهم بقوله تعالى :  والذين يرمون أزواجهم   فمن وجهين :  
أحدهما : أنه ذكر في آية اللعان ما له من الحق في قذفه ، وذكر في آية القذف ما عليه من الحق في قذفه ، وليس يمتنع أن يجتمع في قذفه حق له وحق عليه فلم يتنافيا .  
والثاني : أنه داخل في عموم آية القذف ، ومخصوص بزيادة حكم في اللعان فلم يتعارضا .  
 [ ص: 9 ] أما الجواب عن قوله : إنها زيادة على النص فتعتبر نسخا فمن وجهين :  
أحدهما : أن كليهما نص فلم يكن ناسخا .  
والثاني : أن الزيادة على النص لا تكون عندنا نسخا ، لأن النسخ يكون فيما لا يمكن الجمع بينهما ، والجمع هاهنا ممكن فلم تعتبر نسخا .  
وأما الجواب عن قولهم : لما لم يجز نقل اللعان إلى الأجانب لم يجز نقل الحد إلى الأزواج فمن وجهين : 
أحدهما : أن آية القذف عامة ، فدخل فيها الأزواج ، وآية اللعان خاصة ، فخرج منها الأجانب ، فلم يجز اعتبار إحدى الآيتين بالأخرى .  
والثاني : أن علة الحد القذف ، وهو موجود في الأزواج فساوى فيه الأجانب ، وعلة اللعان الزوجية ، وهو معدوم في الأجنبي فخالف فيه الأزواج . وأما الجواب عن قولهم : إنه لو وجب عليه الحد ما كان له إسقاطه بنفسه ، فهو أن اللعان إما أن يكون يمينا على قولنا أو شهادة على قولهم ، ولكل واحد منهما مدخل في الإبراء من الحقوق فلم يمتنع أن يسقط به الحد . وأما الجواب عن قولهم : إن اللعان تكرير القذف ، فلم يسقط به حد القذف فمن وجهين :  
أحدهما : أنه يمين أو شهادة ، ولا يكون واحد منهما قذفا .  
والثاني : أنه مأمور باللعان عندنا على طريق الجواز وعندهم على وجه الوجوب ، والقذف منهي عنه وغير داخل في الحكمين ، فبطل بهذين أن يكون قذفا . والله أعلم .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					