فصل : [  غزوة تبوك      ]  
ثم غزوة تبوك إلى الروم في رجب .  
وسببها : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن  الروم   قد اجتمعت مع  هرقل   ، وانضم إليها من العرب  لخم   وجذام   وعاملة   وغسان   ، وعزموا على المسيرة ، وقدموا مقدماتهم إلى  البلقاء      : فندب الناس إلى الخروج ، وأعلمهم أنه يتوجه لحرب  الروم   ، وكان عادته أن يواري إذا أراد الخروج إلى وجه إلا في هذه الغزوة ، فإنه صرح بحاله لبعد المسافة ، والحاجة إلى كثرة العدد ، وبعث إلى  أهل  مكة    وإلى قبائل العرب يستنفرهم ، وحث على الصدقات فحملت إليه ، وأنفق  عثمان بن عفان   فيها مالا عظيما ، وكان الناس في عزة من المال وشدة من الحر ، وجدب من البلاد ، وكان وقت الثمار والميل إلى الظلال ، فشق على الناس الخروج على مثل هذه الحال في مثل هذه الجهة ، فعصم الله أهل طاعته حتى أجابوا .  
وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم الخميس ، وكان يحب الخروج فيه فعسكر  بثنية الوداع   ، وخرج  عبد الله بن أبي ابن سلول   في المنافقين ، وفي أحلافه من  اليهود   فعسكروا بنفيل  بثنية الوداع   ، ولم يكن عسكره بأقل العسكرين ، وتأخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصناف : منهم  المنافقون   ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، وكانوا يثبطون الناس وقالوا :  لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا      [ التوبة : 81 ] . واستأذنوا في القعود ، فأذن لهم : منهم  الجد بن قيس   ، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :  لعلك تحتقب بعض بنات الأصفر  فقال : لا تفتني بهن ، فأنزل الله تعالى :  ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا      [ التوبة : 29 ] .  
وصنف منهم المعذرون وكانوا اثنين وثمانين رجلا ، ذكروا أعذارا واستأذنوا في القعود ، فأذن لهم ، ولم يعذرهم .  
 [ ص: 82 ] وصنف منهم  البكاءون      : وهم سبعة :  سالم بن عمير   ،  وعلبة بن زيد   ،  وسلمة بن صخر   ،  والعرباض بن سارية   ،  وعبد الله بن المغفل   ،  ومعقل بن يسار   ،  وعمرو بن حمام   أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحملونه فقال :  لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون      [ التوبة : 92 ] . فنزلت فيه هذه الآية .  
وصنف منهم  متخلفون بغير شك ولا ارتياب   وهم ثلاثة :  كعب بن مالك   ،  ومرارة بن الربيع   ،  وهلال بن أمية   ، تخلفوا  بالمدينة   إلى أن قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها واقترن بهم اثنان تأخرا في الطريق ، ثم لحقا به  أبو ذر الغفاري   ،  وأبو خيثمة السالمي   ، فأما  أبو خيثمة   فإنه رجع إلى أهله فوجد امرأتين له ، قد صنعتا له طعاما ورشت كل واحدة منهما عريشها ، فذكر ما فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحر ، وما هو فيه من الكن ، فحلف لا يقيم حتى يلحق به فأدركه ، وقد سار إلى  تبوك   ، وهو نازل بها فقال الناس : يا رسول الله هذا راكب على الطريق ، فقال :  كن  أبا خيثمة   فقالوا : هو والله  أبو خثيمة   ، فلما أناخ أقبل فسلم عليه ، وأخبره بخبره ، فدعا له وقال فيه خيرا .  
وأما  أبو ذر      : فإن بعيره بعد السير أبطأ به ، فتأخر عن الناس ، فذكر تأخيره لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال :  إن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم  فلما لم ينهض به البعير حمل متاعه على ظهره وسار تبع الآثار ، فلما دنا من الناس ، قالوا : يا رسول الله هذا رجل يمشي وحده ، فقال :  كن  أبا ذر   ، فقالوا : هو والله  أبو ذر   فقال :  يرحم الله  أبا ذر   يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده     .  
فلما نزل  أبو ذر   الربذة   وحضرته الوفاة ، ولم يكن معه إلا امرأته وغلامه وصاهما أن يغسلاه ويكفناه ، ويضعاه على قارعة الطريق ، فأول ركب يمر قولا له : هذا  أبو ذر   صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعينونا على دفنه ، ففعلا ذلك ووضعاه على قارعة الطريق ، فأقبلعبد الله بن مسعود   في رهط من  أهل  العراق    عمارا   فقام إليهم الغلام فقال : هذا  أبو ذر   فأعينونا على دفنه ، فاستهل  عبد الله بن مسعود   باكيا وقال : صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك     . فكان هذا وما تقدم من أمر  أبي خيثمة   من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - .  
ولما أزمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسير من معسكره  بثنية الوداع   استخلف  محمد بن مسلمة   على  المدينة   ،  واستخلف  علي بن أبي طالب   على أهله   ، واستخلف  أبا بكر   على الصلاة بالناس في معسكره ، وصار في ثلاثين ألفا ، وفيهم عشرة آلاف فرس ورجع  عبد      [ ص: 83 ] الله بن أبي ابن سلول   فيمن معه من المنافقين  واليهود   ، وسار في عسرة من الظهر كان الرجلان والثلاثة على بعير ، وفي عسرة من النفقة ، وفي عسرة من الماء ، فظهر من معجزاته في هذا المسير أنه مر بالحجر فنزلها ، واستقى الناس من مائها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :  لا تشربوه ولا تتوضأوا منه ، ومن عجن به عجينا فلا يأكله ، ويعلفه بعيره ولا يخرج أحد منكم الليلة إلا معه صاحب له ، ففعلوا ما أمرهم به إلا رجلين خرج أحدهما وحده لحاجته ، وخرج الآخر لطلب بعيره ، فأما الخارج لحاجته فخنق على مذهبه ، وأما الخارج لطلب بعيره ، فاحتملته الريح حتى طرحته على جبل  طيئ   فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال : ألم أنهكم أن يخرج رجل منكم إلا ومعه صاحبه ودعا للذي أصيب على مذهبه فشفي ، وأما الواقع على جبل طيئ فإن  طيئا   أهدته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم إلى  المدينة      .  
فلما أصبح الناس وساروا ولا ماء معهم عطشوا ، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا الله تعالى ، فأرسل سحابة أمطرت ، فارتوى الناس واحتملوا حاجتهم منه ، وضلت راحلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب أصحابه في طلبها ، فقال بعض المنافقين وهو  زيد بن اللصيب   أليس يزعم  محمد   أنه نبي يخبركم عن خبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : وإني والله لا أعلم إلا إن أعلمني الله ، وقد دلني الله عليها ، وهي في الوادي في الشعب الفلاني قد حبستها شجرة بزمامها ، فانطلقوا حتى تأتوا بها ، فانطلقوا فوجدوها كذلك ، فأتوه بها ، وسار حتى نزل  تبوك   ، فلما استقر بها أتاه  ابن رؤبة   صاحب  أيلة   فصالحه على  أيلة   ، وأعطاه الجزية ، وأتاه  أهل  جرباء    وأذرح   فأعطوه الجزية ، وكتب لهم كتابا .  
وبعث  خالد بن الوليد   إلى  أكيدر   بدومة الجندل    ، وهو  أكيدر بن عبد الملك من كندة   وهو ملك عليها نصراني ، فصار إليه  خالد   في أربعمائة وعشرين فارسا . وقال  لخالد      : إنك ستجده يصيد البقر فلما دنا  خالد   أقبلت البقر تطيف بحصن  أكيدر   فلما رآها في ليلة مقمرة نزل إليها مع أخيه  حسان   في جماعة من أهلها : ليصيدها فأدركته خيل  خالد   ، فقتل  حسان   ، وأسر  أكيدر   ، وأجاره على دمه حتى يأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أتاه حقن دمه ، وكان  خالد   قد أجاره من القتل على فتح الحصن ، وصالحه على عمله بألفي بعير وثمانمائة رأس وأربعمائة درع عزل منه الخمس والصفي ، وقسم باقيه بين الغانمين فكان السهم خمس فرائض ، وبذل الجزية : فأقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها ، ورده إلى موضعه ، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  بتبوك   عشرين يوما يقصر الصلاة ،  وهرقل   بحمص   ، ثم انصرف عن  تبوك   ، ولم يلق كيدا ، وقدم  المدينة   في شهر رمضان ، ولما نزل قبل دخول  المدينة   بذي أوان   ، وبينه وبين  المدينة   ساعة من نهار وكان أهل  مسجد الضرار   حين مر      [ ص: 84 ] بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند مسيره إلى  تبوك   سألوه أن يصلي بهم فامتنع وقال : حتى نرجع إن شاء الله ، وهم اثنا عشر رجلا ، اتخذوا  مسجدا ضرارا   وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله ، كما حكاه الله عنهم في كتابه ، فأنفذ من ذي أوان   مالك بن الدخشم   ،  وعاصم بن عدي   حتى أضرما في  مسجد الضرار    نارا ، ودخل  المدينة   فأتاه المنافقون يحلفون ويعتذرون ، فصفح عنهم ، وإن كان الله تعالى لم يعذرهم ، ونهى عن كلام  الثلاثة الذين تخلفوا   ، وهم  كعب بن مالك   ومرارة بن الربيع   وهلال بن أمية   فامتنع المسلمون من كلامهم ، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليه أنفسهم ، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، ثم تاب عليهم بعد أن اعتزلهم الناس ، واعتزلوا الناس ، وقبلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما كانوا عليه من صحة الإيمان ونفي الارتياب .  
وكانت هذه غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذ المسلمون في قدومهم منها في بيع أسلحتهم ، وقالوا : قد آن قطع الجهاد ، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال :  لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال     .  
 [ ص: 85 ] بسم الله الرحمن الرحيم  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					