فصل : فإذا تقرر حكم  أهل الكتاب   أنهم مقرون بالجزية على ما تدينوا به من شرائعهم ، فالكلام في  تعيينهم ، وحكم من دخل في أديانهم   مشتمل على فصلين : أحدهما : من عرف كتابه ودينه من  اليهود   والنصارى      .  
والثاني : من لم يعرف .  
فأما المعروفون من  اليهود   المتدينون بالتوراة  والنصارى   المتدينون بالإنجيل فضربان :  
أحدهما : من عاينه وآمن به وتدين بكتابه  كاليهود   الذين كانوا في عصر  موسى   ،  والنصارى   الذين كانوا في عصر  عيسى   من  بني إسرائيل   ،  وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم   ، وأبناء هؤلاء الآباء مقرون على دينهم بالجزية ، وهم أبناء من عاصر  موسى   وعيسى   ، فإن لم يبدلوا كانت لهم حرمتان : حرمة آبائهم أنهم كانوا على حق ، وحرمة بأنفسهم في تمسكهم بكتابهم ، وإن بدلوا أقروا مع التبديل لإحدى الحرمتين ، وهي حرمة آبائهم ، وليس لهم حرمة أنفسهم في التمسك بكتابهم : لأن المبدل لا حرمة له .  
والضرب الثاني : من دخل في دينهما من غيرهما ، بعد انقضاء عصر نبوتهما ، وهو أن يدخل في اليهودية بعد  موسى   ، وفي النصرانية بعد  عيسى   ، فهذا على ثلاثة أقسام :  
 [ ص: 289 ] أحدهما : أن يدخلوا فيه قبل تبديله .  
والثاني : أن يدخلوا فيه بعد نسخه .  
والثالث : أن يدخلوا فيه بعد تبديله وقبل نسخه .  
فأما القسم الأول : وهو أن يدخلوا فيه قبل تبديله ، فهم مقرون عليه بالجزية كالداخل فيه على عصر نبيه ، وسواء كان أبناؤهم الآن مبدلين أو غير مبدلين ، ولأن لهم حرمتين إن لم يبدلوا ، وحرمة واحدة إن بدلوا : لأن دينهم على حق بعد موت نبيهم كما كان على حق قبل موته ، فاستوت حرمة الدخول فيه من الحالين .  
وأما القسم الثاني : وهو أن يدخلوا فيه بعد نسخه ، وبعد نسخ شريعة  عيسى   في النصرانية بشريعة الإسلام .  
فأما نسخ شريعة  موسى   ففيه وجهان حكاهما  أبو إسحاق المروزي      :  
أحدهما : أنها تكون منسوخة بالنصرانية - شريعة  عيسى      - وهو أظهرها ، لاختلافهما وأن الحق في أحدهما .  
والوجه الثاني : أنها منسوخة بشريعة الإسلام دون النصرانية : لأن  عيسى   نسخ من شريعة  موسى   ما خالفها ، ولم ينسخ منها ما وافقها ، وإنما نسخ الإسلام جميع ما تقدمه من الشرائع .  
فإذا ثبت ما نسخ به كل شريعة ، فمن دخل في دين بعد نسخه لم يقر عليه ، لعدم حرمته عند دخوله فيه ، فصار كعبدة الأوثان في عدم الحرمة .  
وقال المزني : يقر الداخل فيه بعد نسخه كما يقر الداخل فيه قبل نسخه وتبديله ، لقول الله تعالى :  ومن يتولهم منكم فإنه منهم   ، [ المائدة : 51 ] . وهذا فاسد بما عللنا به من عدم الحرمة فيما دخل فيه .  
وقوله :  ومن يتولهم منكم فإنه منهم   يعني في وجوب القتل : لأن من تولاهم منا مرتد لا يقر على ردته .  
وأما القسم الثالث : وهو أن يدخلوا فيه بعد التنزيل وقبل النسخ ، فعلى ثلاثة أقسام :  
أحدهما : أن يدخلوا فيه مع غير المبدلين مثل  الروم   ، فيكونوا كالداخل فيه قبل التبديل في إقرارهم بالجزية ونكاح نسائهم وأكل ذبائحهم : لأن حرمته في غير المبدلين ثابتة .  
 [ ص: 290 ] والقسم الثاني : أن يدخلوا فيه مع المبدلين كطوائف من نصارى العرب ، فيكونوا كالداخل فيه بعد النسخ .  
والقسم الثالث : أن يشكل حال دخولهم فيه هل كان مع المبدلين أو مع غير المبدلين : أو يشكل هل دخلوا قبل التبديل أو بعد التبديل  كتنوخ   وبهراء   وبني تغلب   ، فهؤلاء قد وقفهم الإشكال بين أصلين :  
أحدهما : يوجب حقن دمائهم واستباحة نكاحهم ، كالداخل فيه مع غير المبدلين .  
والثاني : يوجب إباحة دمائهم ، وحظر مناكحهم كالداخل فيه مع المبدلين ، فوجب أن يغلب في الأصلين معا حكم الحظر دون الإباحة ، فيقروا بالجزية حقنا لدمائهم : لأن أصل الدماء على الحظر ، ولا تنكح نساؤهم ، ولا تؤكل ذبائحهم : لأن أصل الفروج على الحظر ، والحظر تعيين ، والإباحة شك ، فغلب حكم اليقين على الشك ، وصاروا في ذلك  كالمجوس   ، فهذا حكم الكتاب المشهور ، والدين المعروف .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					