مسألة : قال  الشافعي   ، رضي الله عنه : " وإن كانت قرية مجتمعة البناء والمنازل وكان أهلها لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفا إلا ظعن حاجة وكان أهلها أربعين رجلا حرا بالغا غير مغلوب على عقله ، وجبت عليهم الجمعة واحتج بما لا يثبته أهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم  المدينة   جمع بأربعين رجلا وعن  عبيد الله بن عبد الله   أنه قال :  كل قرية فيها أربعون رجلا فعليهم الجمعة  ومثله عن  عمر بن عبد العزيز      .  
قال  الماوردي      : وهذا كما قال .  
هذه المسألة تشتمل على فصلين : أحدهما : في  المكان الذي تنعقد فيه الجمعة   ، والثاني : في العدد الذي تنعقد به الجمعة .  
فأما المكان : فمذهبنا أنها تنعقد في الأمصار ، والقرى إذا كانت القرية مجتمعة البناء ، وكان لها عدد تنعقد به الجمعة ، وهم أربعون لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفا إلا ظعن حاجة ، وبه قال من الصحابة  عمر   وابن عمر   وابن عباس   ، ومن الفقهاء  مالك   ،  وأحمد بن حنبل   ، وقال  أبو حنيفة      : لا تجب الجمعة على أهل القرى ، ولا تصح إقامة الجمعة فيها ، إلا أن يكون مصرا جامعا ، فيلزمهم إقامتها . وحد المصر عنده : أن يكون فيه إمام يقيم الحدود ، وقاض ينفذ الأحكام ، وجامع ومنبر ، وبه قال  علي بن أبي طالب   ، رضي الله عنه ، ومن نص قوله استدل بما روي عن  علي بن أبي طالب   ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع  قالوا : ولأن فرض الجمعة على أهل السواد والقرى مما تعم به البلوى ، وما عمت به البلوى لا يجوز أن يبينه النبي صلى الله عليه وسلم بيانا خاصا ، بل يشرعه شرعا عاما ، ولا ينقل آحادا بل ينقل نقلا متواترا ، وذلك معدوم .  
 [ ص: 408 ] قالوا : ولأنه موضع لا تقام فيه الحدود في الغالب . فوجب ألا تصح إقامة الجمعة فيه ، كالمفاوز والبوادي . 
ودليلنا مع ما ذكرناه من الظواهر المتقدمة قوله صلى الله عليه وسلم :  جمعوا حيث كنتم  ولم يخص بلدا من قرية ، فكان على عمومه ، وروي  أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قرية  مزنية   أن يصلوا الجمعة والعيدين  وروي  أن  أسعد بن زرارة   صلى أول جمعة في الإسلام  بالمدينة   ، في حرة  بني بياضة   ، بموضع يقال له  الخضمات   ولم يكن مصرا ، وكانوا أربعين رجلا  وروى  ابن عباس   أن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد  المدينة   بقرية من قرى  البحرين   تسمى  جواثا   ولأنها إقامة صلاة ، فوجب أن لا يكون من شرطها المصر ، كسائر الصلوات ، ولأنها معقل يستوطنه عدد تنعقد بهم الجمعة ، فجاز أن يقيموا الجمعة قياسا على أهل الأمصار .  
الجواب عن استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم :  لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع  فهو موقوف على  علي بن أبي طالب   ، رضي الله عنه ، على وهاء في إسناده ثم لا يصح  لأبي حنيفة   الاستدلال به ، لأنه يقول : لو أن إماما أقام الحدود ، وقاضيا نفذ الأحكام في قرية وجب إقامة الجمعة فيها ، ولو خرج عن المصر الإمام والقاضي ولم يستخلفا ، لم تلزمهم إقامة الجمعة ، فلم يعتمد على ظاهر الخبر في اعتبار المصر ، وبطل أن يكون له فيه دلالة ثم يستعمله ، فنقول : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع العدد الذي تنعقد به الجمعة .  
وأما قولهم إن ما يعم به البلوى يجب أن يكون بيانه عاما ، ولا يرد به النقل آحادا ، فيقال لهم يجوز عندنا أن يكون بيانه خاصا ، ويرد النقل به آحادا ، فلم نسلم لكم هذه الدلالة ، على أنهم يقولون ما تعم به البلوى يجب أن يكون بيانه عاما إذا كان من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يرد له في الكتاب ذكر ولا بيان حكم ، وقد ورد كتاب الله تعالى بإيجاب الجمعة ، فلا يلزمهم على مذهبهم أن يكون بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاما ، على أنه صلى الله عليه وسلم قد عم البيان ، فقال صلى الله عليه وسلم على منبره :  اعلموا أن الله تعالى فرض عليكم الجمعة في عامي هذا في شهري هذا ، في ساعتي هذه ، فريضة مكتوبة  وليس في البيان أعم من هذا .  
وأما قياسهم على البوادي : فالمعنى فيه : أنهم غير مستوطنين .  
فإذا ثبت  إقامة الجمعة في القرى   إذا استوطنها عدد تنعقد بهم الجمعة وكانوا مجتمعي المنازل اعتبرت حال منازلهم : فإن كانت مبنية بالآجر والجص أو باللبن والطين ، أو بالخشب الوثيق ، فعليهم إقامة الجمعة ، وإن كانت منازلهم خياما أو بيوت شعر ، أو من سعف ، أو      [ ص: 409 ] قصب ، فلا جمعة عليهم ، لأن هذه المنازل ليست أوطانا ثابتة ، وكذلك إن كانوا أهل منازل متفرقة وبنيان متباعدة غير مجتمعة ، ولا متصلة ، لأن هؤلاء في حكم المقيمين ، لا المستوطنين ، لأن الأوطان ما اجتمعت ، والجمعة لا تنعقد بالمقيم حتى يكون مستوطنا .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					