مسألة : قال  الشافعي   ، رضي الله عنه : " فإن خطب بهم وهم أربعون ثم انفضوا عنه ، ثم رجعوا مكانهم صلوا صلاة الجمعة وإن لم يعودوا حتى تباعد أحببت أن يبتدئ الخطبة فإن لم يفعل صلاها بهم ظهرا " .  
قال  الماوردي      : وهذا كما قال .  
وأما  الخطبتان فواجبتان ، وشرائط الجمعة معتبرة فيهما   فلا يجوز أن يخطبهما إلا بعد الزوال ، إذا حضرها أربعون فصاعدا ، ووجب أن الخطبة أربع كلمات ، نذكرها في مواضعها وما سواهن من سننها .  
فإن  خطب فأتى بواجبات الخطبة أو بعضها ، والعدد أقل من أربعين   ، لم يجز أن يصلي بهم الجمعة ، وإن كانوا عند إحرامه أربعين ، حتى يبتدئ الخطبة على أربعين ، ويحرم بالصلاة مع أربعين ، وقال  أبو حنيفة      : ليس العدد معتبرا في الخطبة ، وإن كان معتبرا في الصلاة ، تعلقا بأن الأذكار التي تتقدم الصلاة لا يشترط فيها الاجتماع كالأذان ، وهذا خطأ .  
ودليلنا : أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بحضرة أصحابه ، وقال : "  صلوا كما رأيتموني أصلي     " : ولأن كل من افتقر إلى حضوره في الصلاة افتقر إلى حضوره في الخطبة كالإمام ، ولأنها أذكار      [ ص: 412 ] من شرائط الجمعة ، فوجب إذا اختص بها الإمام أن لا ينفرد بها عن العدد كالقراءة ، ومن هذا الوجه خالفت الأذان ، لأنه إعلام ، فجاز تقدمه قبل حضور العدد ، لحصول الإعلام به ، والخطبة عظة ، فلم يجز تقدمها قبل حضور العدد ، لعدم الاتعاظ بها .  
فصل : فإذا وضحت هذه الجملة ، فصورة مسألة الكتاب : أن  يخطب بهم وهم أربعون فصاعدا ، ثم ينفضوا عنه ، لعارض   من فتنة أو غيرها ، فلهم حالان :  
حال : يعودون بعد انفضاضهم .  
وحال : لا يعودون ، فإن لم يعودوا صلى الإمام ظهرا أربعا ، وكذلك لو عاد منهم أقل من أربعين صلى بهم ظهرا ، ولم يجز أن يصلي بهم الجمعة : لأن الجمعة لا يصح انعقادها بأقل من أربعين ، وإن عادوا جميعا ، أو عاد منهم أربعون رجلا ، فلهم حالان :  
أحدهما : أن يعودوا بعد زمان قريب .  
والثاني : أن يعودوا بعد زمان بعيد .  
فإن قرب زمان عودتهم بنى على ما مضى ، وصلى بهم جمعة ، ولم يكن الفصل اليسير مانعا من جواز البناء : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوقع في خطبته فصل يسير فإنه كلم  سليكا   وقتلة  ابن أبي الحقيق      .  
ثم بنى ، ولم يجعل للفصل اليسير حكما ، ولأنه لما لم يكن الفصل اليسير في الصلاة مانعا من البناء عليها ، كان في الخطبة أولى أن لا يمنع من جواز البناء عليها .  
فأما إن بعد زمان عودتهم ، اعتبرت ما مضى من واجبات الخطبة ، فلا يخلو من أمرين : إما أن يكون قد مضى جميع الواجبات ، أو قد مضى بعضها ، وبقي بعضها . فإن مضى بعض واجباتها : فغرض الخطبة باق : لأنه لم يأت به ، ولا يجوز له البناء على ما مضى : لأن بعد الزمان قد أبطله كالصلاة ، وعليه أن يستأنف خطبتين ، ويصلي الجمعة ركعتين ، إذا كان الوقت متسعا ، لا يختلف فيه المذهب وإن مضى جميع واجباتها : فقد قال  الشافعي   ، رضي الله عنه : أحببت أن يبتدئ الخطبة ، وإن لم يفعل صلى بهم ظهرا أربعا .  
واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة مذاهب :  
أحدها : وهو أصحها وأولاها أن يحمل كلام  الشافعي   على ظاهره ، فيخطب استحبابا لا واجبا : لأن فرض الخطبة قد أقامه مرة ، فلم يلزمه إقامته ثانية ، فعلى هذا إن لم يخطب صلاها ظهرا أربعا : لأن الخطبة شرط في إقامة الجمعة فإذا لم يلزمه استئناف الخطبة لإتيانه بها ، ولم يجز له البناء على الخطبة المتقدمة لبعد زمانها ، وجب عليه أن يصليها ظهرا أربعا وإن استأنف الخطبة فقد وجب عليه أن يصلي الجمعة ركعتين ، ولم يجز أن يصليها أربعا      [ ص: 413 ] وإنما لزمه الجمعة لوجود شرائطها ، وهي الخطبة مع بقاء الوقت وكمال العدد ، فهذا أحد المذاهب الثلاثة ، وبه قال أكثر أصحابنا .  
والمذهب الثاني : وهو قول  أبي العباس بن سريج   أنه يخطب واجبا لا استحبابا ويصلي الجمعة لا ظهرا : لأن الوقت باق ، والعدد موجود ، قال : وقد أخطأ  المزني   في نقله عن  الشافعي   ، رحمه الله في قوله : " أحببت أن يبتدئ الخطبة " . وإنما أوجبت ويصلي بهم جمعة ، قال : وقول  الشافعي      : " فإن لم يفعل صلى بهم ظهرا أربعا " أراد به : إن لم يعقد حتى خرج الوقت وهذا المذهب وإن كان له وجه ، فالأول أظهر منه ، وقد أخطأ في تخطئته  المزني   ؛ لأن الربيع هكذا نقل عن  الشافعي   أنه قال : أحببت ، ولم ينقل عنه أحد " أوجبت " ، فعلم أن  المزني   لم يخطئ في نقله ، وإنما أخطأ  أبو العباس   في تأويله .  
والمذهب الثالث : أنه إن كان العذر باقيا خطب استحبابا ، وإن زال العذر خطب واجبا ، وهذا القول لا وجه له : لأن ما لم يكن عذرا في سقوط الخطبة ابتداء لم يكن عذرا في سقوطها انتهاء .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					