[  أقسام القياس      ] :  
والقياس : قياسان ؛ قياس معنى وقياس شبه :  
واختلف أصحابنا في  الفرق بين قياس المعنى وقياس الشبه   على وجهين :  
أحدهما : أن قياس المعنى ما أخذ حكم فرعه من معنى أصله ، وقياس الشبه ما أخذ حكم فرعه من شبهه بأصله .  
والوجه الثاني : أن قياس المعنى ما لم يكن لفرعه إلا أصل واحد أخذ حكمه من معناه ، وقياس الشبه ما تجاذبته أصول ألحق بأقواها شبها فصار قياس المعنى أقوى من قياس الشبه على الوجهين .  
[  قياس المعنى      ] :  
فأما قياس المعنى : فينقسم قسمين جلي وخفي .  
أما  القياس الجلي      : فيكون معناه في الفرع زائدا على معنى الأصل .  
وأما  القياس الخفي      : فيكون معناه في الفرع مساويا لمعنى الأصل .  
[  أقسام القياس الجلي      ] :  
والقياس الجلي على ثلاثة أضرب :  
أحدها :  ما عرف معناه من ظاهر النص بغير استدلال   ، ولا يجوز أن يرد التعبد فيه بخلاف أصله ، وذلك مثل قوله تعالى :  فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما      [ الإسراء : 22 ] . فدل تحريم التأفيف ببديهة النص على تحريم الضرب والشتم ، فلا يجوز أن يحرم التأفيف ويحل الضرب والشتم ، فصار تحريم الضرب والشتم مأخوذا من تحريم التأفيف قياسا ، ومثله قوله تعالى :  فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره      [ الزلزلة : 7 - 8 ] . فلا يجوز أن يجازي على قليل الطاعة ولا يجازي على كثيرها ويعاقب على قليل المعصية ولا يعاقب على كثيرها  
 [ ص: 145 ] ومثله قوله تعالى :  ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك      [ آل عمران : 75 ] . فالأمين على القنطار هو على الدينار آمن ، والخائن في الدينار هو في القنطار أخون .  
وهذا الضرب من القياس هو أقرب وجوه القياس إلى النصوص لدخول فروعها في النصوص .  
وأنكر نفاة القياس أن يكون هذا الضرب . قياسا .  
وجعله بعضهم نصا وجعله آخرون تنبيها .  
وأنكر كثير من مثبتي القياس أن يكون هذا قياسا . وسماه بعضهم مفهوم الخطاب وسماه آخرون منهم فحوى الكلام .  
وأنكروا على  الشافعي   تسميته قياسا .  
قالوا : لأن القياس ما خفي حكم المسكوت عنه حتى عرف بالاستدلال من المنصوص عليه ، فما خرج عن الخفاء ولم يحتج إلى الاستدلال فليس بقياس وهذا الإنكار خطأ من وجهين :  
أحدهما : أن النص ما عرف حكمه من اسمه ، والقياس ما عرف حكمه من اسم غيره ، وهذا موجود هاهنا : لأن اسم التأفيف لا ينطلق على الضرب والشتم كما لا ينطلق اسم الضرب على التأفيف ، لأن كل واحد من الاسمين ينطلق على غير ما ينطلق عليه الآخر فصار تحريم الضرب مأخوذا من معنى التأفيف لا من اسمه . فإن امتنعوا أن يسموه قياسا فقد سلموا معنى وخالفوا في اسمه ، والمخالفة في الاسم مع تسليم المعنى مطرحة .  
والثاني : أن المعاني تتنوع : فيكون بعضها جليا تسبق بديهته إلى الفهم من غير استدلال وبعضها خفيا لا يفهم إلا بالفكر والاستدلال ، كما أن الأسماء تتنوع فيكون بعضها واضحا تعرفه الخاصة والعامة ، وبعضها غامضا تعرفه الخاصة دون العامة ، كنهيه - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الرجل وهو زناء وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الزكاة : "  لا جلب ولا جنب ولا خلاط ولا وراط ونهى عن بيع الملاقيح والمضامين  ، فلما لم يكن اختلاف الأسماء في الوضوح والغموض مانعا من أن تكون جميعها نصوصا لزم أن يكون اختلاف المعاني في الجلاء والخفاء ليس بممتنع من أن تكون جميعها قياسا .  
فإذا صح أن هذا قياس فلا يختلف أصحابنا في جواز تخصيص العموم به .  
واختلفوا في جواز  النسخ به   على وجهين .  
 [ ص: 146 ] أحدها : وهو قول أكثرهم : لا يجوز النسخ به لأن القياس فرع النص فلم يجز أن يكون ناسخا للنص .  
والوجه الثاني : وهو قول  أبي علي بن أبي هريرة   وحكاه عن بعض من تقدمه أنه يجوز أن ينسخ به النص ، لأنه لما لم يجز أن يرد التعبد في فرعه بخلاف أصله صار الفرع كالنص فجاز به النسخ .  
فإن كان أصله نصا في القرآن جاز أن ينسخ به القرآن دون السنة ، وإن كان أصله نصا في السنة جاز أن تنسخ به السنة دون القرآن .  
والضرب الثاني :  ما عرف معناه من ظاهر النص بغير استدلال   لكن يجوز أن يرد التعبد فيه بخلاف أصله .  
وذلك مثال نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأضحية بالعوراء البين عورها والعرجاء البين عرجها فكانت العمياء قياسا على العوراء ، والقطعاء قياسا على العرجاء ، وإن جاز أن يرد التعبد بتحريم العوراء والعرجاء وإباحة العمياء والقطعاء .  
ومثله " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - المحرم أن يلبس ثوبا مسه ورس أو زعفران فكان العنبر والمسك قياسا على الورس والزعفران ، وإن جاز أن يرد التعبد بتحريم الورس والزعفران وإباحة المسك والعنبر .  
وهذا مما اختلف نفاة القياس فيه فاقتصر بعضهم على تحريم النص وإباحة ما عداه فحرم التضحية بالعوراء والعرجاء ، وأباحها بالعمياء والقطعاء ، وحرم ما مسه ورس أو زعفران ، وأباح ما مسه عنبر أو مسك .  
وأثبت بعضهم تحريم جميعه بالتنبيه دون النص .  
فهذا الضرب يجوز تخصيص العموم بمثله ، ولا يجوز به النسخ بوفاق أصحابنا لجواز ورود التعبد في الفرع بخلاف أصله .  
والضرب الثالث :  ما عرف معناه من ظاهر النص باستدلال ظاهر ويعرف بمبادئ النظر      .  
وذلك مثل قول الله تعالى في زنا الإماء :  فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب      [ النساء : 25 ] . فجعل حدهن نصف حد الحرائر ، ولم يكن المعنى فيه إلا نقصهن بالرق ، فكان العبيد قياسا عليهن في تنصيف الحد إذا زنوا لنقصهم بالرق .  
ومثله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "  من أعتق شركا له في عبد وكان موسرا قوم عليه     " فكانت الأمة قياسا على العبد .  
 [ ص: 147 ] ومثله قوله تعالى :  إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع      [ الجمعة : 9 ] . فكان معنى نهيه عن البيع أنه شاغل عن حضور الجمعة ، فكانت عقود المناكح والإجارات وسائر الأعمال والصنائع قياسا على البيع ، لأنه شاغل عن حضور الجمعة . فهذا الضرب لا يجوز به النسخ .  
ويجوز تخصيص العموم به عند أكثر أصحابنا ، وإن منع منه بعضهم لخروجه عن الجلاء بالاستدلال وليس بصحيح : لأنه قد صار بجلاء الاستدلال كالجلي بغير استدلال .  
فهذه ثلاثة أضرب هي ضروب القياس الجلي ، يجوز أن ينعقد بها الإجماع وينقض بها حكم من خالف من الحكام .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					