[ ص: 178 ] الطرف الثالث في كتاب القاضي إلى القاضي  ، فالقاضي بعد سماع الدعوى والبينة على الغائب قد يقتصر عليه ، وينهي الأمر إلى قاضي بلد الغائب ليحكم ويستوفي ، وقد يحلفه كما سبق ، ويحكم وعلى التقدير الثاني قد يكون للغائب مال حاضر يمكن أداء الحق منه فيؤدى ، وقد لا يكون كذلك ، فيسأل المدعي القاضي إنهاء الحكم إلى قاضي بلد الغائب ، فيجيبه إليه . 
وللإنهاء طريقان ، أحدهما : أن يشهد على حكمه عدلين يخرجان إلى ذلك البلد ، والأولى أن يكتب بذلك كتابا أولا ، ثم يشهد ، وصورة الكتاب : حضر فلان ، وادعى على فلان الغائب المقيم ببلد كذا ، وأقام عليه شاهدين وهما فلان وفلان ، وقد عدلا عندي ، وحلفت المدعي ، وحكمت له بالمال ، فسألني أن أكتب إليك في ذلك فأجبته ، وأشهدت بذلك فلانا وفلانا . 
ولا يشترط تسمية الشاهدين على الحكم ، ولا ذكر أصل الإشهاد ، ولا تسمية شهود الحق ، بل يكفي أن يكتب : شهد عندي عدول ويجوز أن لا يصفهم بالعدالة ، ويكون الحكم بشهادتهم تعديلا لهم ، ذكره في العدة ، ويجوز أن لا يتعرض لأصل الشهادة ، فيكتب : حكمت بكذا بحجة أوجبت الحكم ؛ لأنه قد يحكم بشاهد ويمين وقد يحكم بعلمه إذا جوزناه ، وهذه حيلة يدفع بها القاضي قدح الحنفية إذا حكم بشاهد ويمين . 
وفي فحوى كلام الأصحاب وجه ضعيف مانع من إبهام الحجة ، لما فيه من سد باب الطعن والقدح على الخصم . 
ويستحب للقاضي أن يختم الكتاب ويدفع إلى الشاهدين نسخة غير مختومة ليطالعاها ، ويتذاكرا عند الحاجة ، وأن يذكر في الكتاب نقش خاتمه الذي يختم به ، وأن يثبت اسم نفسه ، واسم المكتوب إليه في باطن الكتاب ، وفي العنوان أيضا . وأما الإشهاد ، فإن أشهدهما أنه حكم بكذا ، ولا كتاب ، شهدا به ، وقبلت شهادتهما ، وإن أنشأ الحكم بين أيديهما ، فلهما أن يشهدا عليه وإن لم   [ ص: 179 ] يشهدهما ، وإن كتب ، ثم أشهد ، فينبغي أن يقرأ الكتاب أو يقرأ بين يديه عليهما ثم يقول لهما : اشهدا علي بما فيه ، أو على حكمي المبين فيه ، وفي " الشامل " أنه لو اقتصر بعد القراءة على قوله : هذا كتابي إلى فلان ، أجزأ ، وحكى   ابن كج  وجها أنه يكفي مجرد القراءة عليهما ، والأحوط أن ينظر الشاهدان وقت القراءة عليهما في الكتاب ، فلو لم يقرأ الكتاب عليهما ، ولم يعلما ما فيه ، قال القاضي : أشهدكما على أن هذا كتابي أو ما فيه خطي ، لم يكف ، ولم يكن لهما أن يشهدا على حكمه ؛ لأن الشيء قد يكتب من غير قصد بحقيقة . 
ولو قال : أشهدكما على أن ما فيه حكمي ، أو على أني قضيت بمضمونه ، فوجهان ، أصحهما : لا يكفي حتى يفصل ما حكم به ، والثاني : يكفي لإمكان معرفة التفصيل بالرجوع إليه ، ويجري الخلاف فيما لو قال المقر : أشهدتك على ما في هذه القبالة وأنا عالم به ، لكن الأصح عند   الغزالي  في الإقرار أنه يكفي ، حتى إذا سلم القبالة إلى الشاهد ، وحفظها الشاهد ، وأمن التحريف ، جاز له أن يشهد على إقراره ؛ لأنه يقر على نفسه ، والإقرار بالمجهول صحيح ، وقطع  الصيمري  بأنه لا يكفي في الإقرار أيضا حتى يقرأه ويحيط بما فيه ، قال : وهو مذهب   الشافعي  وأبي حنيفة     - رحمهما الله - ويشبه أن يكون الخلاف في أن الشاهد هل يشهد أنه أقر بمضمون القبالة مفصلا . 
فأما الشهادة على أنه أقر بما في هذا الكتاب مبهما ، فينبغي أن يقبل بلا خلاف كسائر الأقارير المبهمة ، ثم سواء شهد كذا أو كذا ، فإنما يشهد إذا كان الكتاب محفوظا عنده ، وأمن التصرف . 
فرع 
التعويل على شهادة الشهود  ، والمقصود من الكتاب التذكر ، ومن الختم الاحتياط ، وإكرام المكتوب إليه ، فلو ضاع الكتاب ، أو امحى   [ ص: 180 ] أو انكسر الختم ، وشهدا بمضمونه المضبوط عندهما ، قبلت شهادتهما ، وقضي بها ، فلو شهدا بخلاف ما في الكتاب ، عمل بشهادتهما ، ولا يكفي الكتاب المجرد . 
وقال  الإصطخري     : إذا وثق المكتوب إليه بالخط والختم ، كفى ، والصحيح الأول . 
ويشترط إشهاد رجلين عدلين ، فلا يقبل رجل وامرأتان ، وقيل : يقبل إن تعلقت الحكومة بمال ، وذكر   ابن كج  أنه لو كان الكتاب برؤية هلال رمضان ، كفى شهادة واحد على قولنا : يثبت بواحد ، وأنه لو كتب بالزنى وجوزنا كتاب القاضي إلى قاض في العقوبات هل يثبت برجلين أم يشترط أربعة ؟ وجهان بناء على القولين في الإقرار بالزنى . 
فرع 
إذا وصل كتاب القاضي وحامله إلى قاضي البلد الآخر  ، أحضر الخصم ، فإن أقر بالمدعى ، استوفاه ، وإلا فيشهد الشاهدان أن هذا كتاب القاضي فلان وختمه حكم فيه لفلان بكذا على هذا وقرأه علينا وأشهدنا به ، ولو لم يقولوا : أشهدنا به ، جاز ، ولا يكفي ذكرهما الكتاب والختم ، بل لا بد من التعرض لحكمه . 
ثم في " التهذيب " والرقم أن القاضي إنما نقض الختم بعد شهادة الشهود وتعديلهم ، وذكر  الهروي  أنه يفتح الكتاب أولا ثم يشهدون . ويوافق هذا قول كثير من الأصحاب أن الشهود يقرأون الكتاب ، ثم يشهدون ليقفوا على ما فيه ، ويعلموا أنه لم يخرق ، وليس هذا خلافا في الجواز ، وكيف وقد عرف أن الختم من أصله لا اعتبار به ، فكما تقبل الشهادة على ما لا ختم عليه تقبل على المفضوض ختمه ، وسواء فضه القاضي أو غيره ، وإنما هو في الأدب والاحتياط . 
 [ ص: 181 ] فرع 
يجوز أن يكتب إلى قاض معين ، ويجوز أن يطلق فيكتب إلى كل من يصل إليه من القضاة  ، وإذا كان الكتاب إلى معين ، فشهد شاهدا الحكم عند حاكم آخر ، قبل شهادتهما وأمضاه ، وإن لم يكتب : وإلى كل من يصل إليه من القضاة ؛ اعتمادا على الشهادة ، وكذا لو مات الكاتب وشهدا على حكمه عند المكتوب إليه أو مات المكتوب إليه ، وشهدا عند من قام مقامه ، قبل شهادتهما ، وأمضى الحكم . 
والعزل والجنون والعمى والخرس كالموت . ولو كتب القاضي إلى خليفته ، ثم مات القاضي ، أو عزل ، تعذر على الخليفة القبول والإمضاء إن قلنا : ينعزل بانعزال الأصل ، ولو ارتد القاضي الكاتب أو فسق ، ثم وصل الكتاب إلى المكتوب إليه ، فوجهان ، قطع   ابن القاص  وصاحبا " المهذب " و " التهذيب " وآخرون بأن الكتاب إن كان بالحكم المبرم ، أمضي ؛ لأن الفسق الحادث لا يؤثر في الحكم السابق ، وإن كان بسماع الشهادة ، لم يقبل ولم يحكم به ، كما لو فسق الشاهد قبل الحكم ، وأطلق   ابن كج  أنه لا يقبل كتابه إذا فسق ، وهو مقتضى كلام الشيخ  أبي حامد  وابن الصباغ     . 
فرع 
شهود الكتاب والحكم  يشترط ظهور عدالتهم عند المكتوب إليه ، وهل تثبت عدالتهم بتعديل الكاتب إياهم ؟ وجهان ، قال   القفال الشاشي     : نعم للحاجة ، والأصح المنع ؛ لأنه تعديل قبل أداء الشهادة ، ولأنه كتعديل المدعي شهوده ، ولأن الكتاب إنما يثبت بقولهم ، فلو ثبت به عدالتهم لثبتت بقولهم ، والشاهد لا يزكي نفسه . 
فرع 
ينبغي أن يثبت القاضي في الكتاب اسم المحكوم له ، والمحكوم عليه ، وكنيتهما ، واسم أبويهما ، وجديهما ، وحليتهما ، وصنعتهما ،   [ ص: 182 ] وقبيلتهما ليسهل التمييز ، وإن كان مشهورا ظاهر الصيت ، وحصل الإعلام ببعض ما ذكرنا ، اكتفي به . وإذا أثبت الأوصاف كما ذكرنا ، فحمل الكتاب إلى المكتوب إليه ، وأحضر الحامل عنده من زعم محكوما عليه ، نظر إن شهد شهود الكتاب والحكم على عينه ؛ لأن القاضي الكاتب حكم عليه ، طولب بالحق ، وإن لم يشهدوا على عينه ، لكن شهدوا على موصوف بالصفات المذكورة في الكتاب ، فأنكر المحضر أن ما في الكتاب اسمه ونسبه ، فالقول قوله مع يمينه ، وعلى المدعي البينة على أنه اسمه ونسبه ، فإن لم تكن بينة ، ونكل المحضر ، حلف المدعي ، وتوجه له الحكم . 
ولو قال : لا أحلف على أنه ليس اسمي ونسبي ، ولكن أحلف على أنه لا يلزمني تسليم شيء إليه ، فحكى الإمام   والغزالي  عن  الصيدلاني  أنه يقبل منه اليمين هكذا ، كما لو ادعى عليه قرضا ، فأنكر ، وأراد أن يحلف على أنه لا يلزمه شيء ، فإنه يقبل ، واختارا أنه لا يقبل ، وفرقا بأن مجرد الدعوى ليس بحجة ، وهنا قامت بينة على المسمى بهذا الاسم ، وذلك يوجب الحق عليه إن ثبت كونه المسمى ، وإن قامت البينة بأنه اسمه ونسبه ، فقال : نعم ، لكن لست المحكوم عليه ، فإن لم يوجد هناك من يشاركه في الاسم والصفات المذكورة ، لزمه الحكم ؛ لأن الظاهر أنه المحكوم عليه ، وإن وجد بأن عرفه القاضي ، أو قامت عليه بينة ، وأحضر المشارك ، فإن اعترف بالحق ، طولب به ، وخلص الأول ، وإن أنكر بعث الحاكم إلى الكاتب بما وقع من الإشكال ، ليحضر الشاهدين ، ويطلب منهما مزيد صفة يتميز بها المشهود عليه ، فإن ذكرا مزيدا ، كتب إليه ثانيا ، وإلا وقف الأمر حتى تنكشف . 
ولو أقام المحضر بينة على موصوف بتلك الصفات كان هناك وقد مات ، فإن مات بعد الحكم ، فقد وقع الإشكال ، وإن مات قبله ، فإن لم يعاصره المحكوم   [ ص: 183 ] له ، فلا إشكال ، وإن عاصره حصل الإشكال على الأصح ، هذا كله إذا أثبت القاضي اسم المحكوم عليه ونسبه وصفته كما سبق ، أما إذا اقتصر على قوله : حكمت على محمد بن أحمد مثلا ، فالحكم باطل ؛ لأن المحكوم عليه مبهم ، ولم يتعين بإشارة ولا وصف كامل بخلاف ما إذا استقصى الوصف ، فظهر اشتراك على الندور ، حتى لو اعترف رجل في بلد المكتوب إليه بأنه محمد بن أحمد وأنه المعني بالكتاب ، لم يلزمه ذلك الحكم لبطلانه في نفسه إلا أن يقر بالحق ، فيؤاخذ به هذا هو الصحيح ، وهو الذي نقله الإمام   والغزالي  وغيرهما ، وذكر   ابن القاص   وأبو علي الطبري  أنه إذا ورد الكتاب ، أحضر القاضي المكتوب عليه ، وقرأ عليه الكتاب ، فإن أقر أنه المكتوب عليه ، أخذه به ، سواء كان رفع نسبه وذكر صفته أم لا ، ولا شك أنه لو شهد الشهود كما ينبغي إلا أنه أبهم في الكتاب اسم المكتوب عليه يقبل الشهادة ، ويعمل بمقتضاها ، لما سبق أن الاعتبار بقول الشهود لا بالكتاب . 
				
						
						
