القول في فدية الأذى  
وحكم الحالق رأسه قبل محل الحلق  
 وأما فدية الأذى : فمجمع أيضا عليها لورود الكتاب بذلك والسنة .  
أما الكتاب فقوله - تعالى - : (  فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك      ) .  
وأما السنة : فحديث   كعب بن عجرة  الثابت : "  أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرما ، فآذاه القمل في رأسه ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلق رأسه وقال : صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين مدين لكل إنسان ، أو انسك بشاة ، أي ذلك فعلت أجزأ عنك     " .  
والكلام في هذه الآية : على من تجب الفدية ، وعلى من لا تجب ؟ وإذا وجبت فما هي الفدية الواجبة ؟ وفي أي شيء تجب الفدية ؟ ولمن تجب ، ومتى تجب ، وأين تجب ؟  
فأما على من تجب الفدية : فإن العلماء أجمعوا على أنها واجبة على كل من أماط الأذى من ضرورة لورود النص بذلك ، واختلفوا فيمن أماطه بغير ضرورة ، فقال  مالك     : عليه الفدية المنصوص عليها . وقال   الشافعي  وأبو حنيفة     : إن حلق دون ضرورة فإنما عليه دم فقط .  
واختلفوا  هل من شرط من وجبت عليه الفدية بإماطة الأذى أن يكون متعمدا   ، أو الناسي في ذلك والمتعمد سواء ؟ فقال  مالك     : العامد في ذلك والناسي واحد ، وهو قول  أبي حنيفة   والثوري  والليث     . وقال      [ ص: 301 ]  الشافعي  في أحد قوليه وأهل الظاهر : لا فدية على الناسي .  
فمن اشترط في وجوب الفدية الضرورة فدليله النص . ومن أوجب ذلك على غير المضطر فحجته أنه إذا وجبت على المضطر فهي على غير المضطر أوجب ، ومن فرق بين العامد والناسي فلتفريق الشرع في ذلك بينهما في مواضع كثيرة ، ولعموم قوله - تعالى - : (  وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم      ) ، ولعموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : "  رفع عن أمتي الخطأ والنسيان     " . ومن لم يفرق بينهما فقياسا على كثير من العبادات التي لم يفرق الشرع فيها بين الخطإ والنسيان .  
وأما  ما يجب فيه فدية الأذى      : فإن العلماء أجمعوا على أنها ثلاث خصال على التخيير : الصيام ، والإطعام ، والنسك ; لقوله - تعالى - : (  ففدية من صيام أو صدقة أو نسك      ) . والجمهور على أن الإطعام هو لستة مساكين ، وأن النسك أقله شاة . وروي عن  أنس  وعكرمة  ونافع  أنهم قالوا : الإطعام لعشرة مساكين والصيام عشرة أيام .  
ودليل الجمهور : حديث   كعب بن عجرة  الثابت . وأما من قال : الصيام عشرة أيام فقياسا على صيام التمتع وتسوية الصيام مع الإطعام ، ولما ورد أيضا في جزاء الصيد في قوله - تعالى - : (  أو عدل ذلك صياما      ) .  
وأما كم يطعم لكل مسكين من المساكين الستة التي ورد فيها النص : فإن الفقهاء اختلفوا في ذلك لاختلاف الآثار في الإطعام في الكفارات ، فقال  مالك   والشافعي  وأبو حنيفة  وأصحابهم : الإطعام في ذلك مدان بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل مسكين . وروي عن   الثوري  أنه قال : من البر نصف صاع ، ومن التمر والزبيب والشعير صاع ، وروي أيضا عن  أبي حنيفة  مثله ، وهو أصله في الكفارات .  
وأما ما تجب فيه الفدية : فاتفقوا على أنها تجب على من حلق رأسه لضرورة مرض أو حيوان يؤذيه في رأسه . قال   ابن عباس     : المرض : أن يكون برأسه قروح ، والأذى : القمل وغيره . وقال  عطاء     : المرض : الصداع ، والأذى : القمل وغيره . والجمهور على أن كل ما منعه المحرم من لباس الثياب المخيطة وحلق الرأس وقص الأظفار أنه إذا استباحه فعليه الفدية - أي : دم على اختلاف بينهم في ذلك أو إطعام - ، ولم يفرقوا بين الضرر وغيره في هذه الأشياء ، وكذلك استعمال الطيب . وقال قوم : ليس في قص الأظفار شيء . وقال قوم : فيه دم . وحكى  ابن المنذر  أن منع المحرم قص الأظفار إجماع .  
واختلفوا  فيمن أخذ بعض أظفاره   ، فقال   الشافعي   وأبو ثور     : إن أخذ ظفرا واحدا أطعم مسكينا واحدا ، وإن أخذ ظفرين أطعم مسكينين ، وإن أخذ ثلاثا فعليه دم في مقام واحد . وقال  أبو حنيفة  في أحد أقواله : لا شيء عليه حتى يقصها كلها . وقال   أبو محمد بن حزم     : يقص المحرم أظفاره وشاربه وهو شذوذ ، وعنده أن لا فدية إلا من حلق الرأس فقط للعذر الذي ورد فيه النص .  
وأجمعوا على منع  حلق شعر الرأس   ، واختلفوا في  حلق الشعر من سائر الجسد   ، فالجمهور على أن فيه الفدية . وقال  داود     : لا فدية فيه .  
واختلفوا  فيمن نتف من رأسه الشعرة والشعرتين أو من لحمه   ، فقال  مالك     : ليس على من نتف الشعر اليسير شيء ، إلا أن يكون أماط به أذى فعليه الفدية . وقال  الحسن     : في الشعرة مد ، وفي الشعرتين مدان ،      [ ص: 302 ] وفي الثلاثة دم ، وبه قال   الشافعي   وأبو ثور     . وقال  عبد الملك صاحب مالك     : فيما قل من الشعر إطعام ، وفيما كثر فدية .  
فمن فهم من منع المحرم حلق الشعر أنه عبادة سوى بين القليل والكثير . ومن فهم من ذلك منع النظافة والزين والاستراحة التي في حلقه فرق بين القليل والكثير ; لأن القليل ليس في إزالته زوال أذى .  
أما  موضع الفدية      : فاختلفوا فيه : فقال  مالك     : يفعل من ذلك ما شاء أين شاء ،  بمكة   وبغيرها ، وإن شاء ببلده ، وسواء عنده في ذلك ذبح النسك والإطعام والصيام ، وهو قول  مجاهد  ، والذي عند مالك هاهنا هو نسك وليس بهدي ; فإن الهدي لا يكون إلا  بمكة   أو  بمنى      . وقال  أبو حنيفة   والشافعي     : الدم والإطعام لا يجزيان إلا  بمكة   ، والصوم حيث شاء . وقال  ابن العباس     : ما كان من دم  فبمكة   ، وما كان من إطعام وصيام فحيث شاء ، وعن  أبي حنيفة  مثله . ولم يختلف قول   الشافعي  أن دم الإطعام لا يجزئ إلا لمساكين الحرم .  
وسبب الخلاف : استعمال قياس دم النسك على الهدي ، فمن قاسه على الهدي أوجب فيه شروط الهدي من الذبح في المكان المخصوص به ، وفي مساكين الحرم ، وإن كان مالك يرى أن الهدي يجوز إطعامه لغير مساكين الحرم ، والذي يجمع النسك والهدي هو أن المقصود بهما منفعة المساكين المجاورين لبيت الله ، والمخالف يقول : إن الشرع لما فرق بين اسمهما فسمى أحدهما نسكا ، وسمى الآخر هديا وجب أن يكون حكمهما مختلفا .  
وأما الوقت : فالجمهور على أن هذه الكفارة لا تكون إلا بعد إماطة الأذى ، ولا يبعد أن يدخله الخلاف قياسا على كفارة الأيمان .  
فهذا هو القول في  كفارة إماطة الأذى      .  
واختلفوا في  حلق الرأس هل هو من مناسك الحج أو هو مما يتحلل به منه ؟   ولا خلاف بين الجمهور في أنه من أعمال الحج ، وأن الحلق أفضل من التقصير ، لما ثبت من حديث   ابن عمر  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "  اللهم ارحم المحلقين ، قالوا : والمقصرين يا رسول الله ، قال : اللهم ارحم المحلقين ، قالوا : والمقصرين يا رسول الله ، قال : اللهم ارحم المحلقين ، قالوا : والمقصرين يا رسول الله ، قال : والمقصرين     " .  
وأجمع العلماء على أن النساء لا يحلقن ، وأن سنتهن التقصير .  
واختلفوا  هل هو نسك يجب على الحاج والمعتمر أو لا ؟   فقال  مالك     : الحلاق نسك للحاج وللمعتمر ، وهو أفضل من التقصير ، ويجب على كل من فاته الحج وأحصر بعدو أو بمرض أو بعذر ، وهو قول جماعة الفقهاء إلا في المحصر بعدو ، فإن   أبا حنيفة  قال : ليس عليه حلاق ولا تقصير .  
وبالجملة فمن جعل الحلاق أو التقصير نسكا أوجب في تركه الدم ، ومن لم يجعله من النسك لم يوجب فيه شيئا .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					