الفصل الثالث  
في معرفة ما يجوز من النكاية بالعدو .  
وأما  ما يجوز من النكاية بالعدو      : فإن النكاية لا تخلو أن تكون في الأموال ، أو في النفوس ، أو في الرقاب - أعني : الاستعباد والتملك - .  
فأما النكاية التي هي الاستعباد : فهي جائزة بطريق الإجماع في جميع أنواع المشركين - أعني : ذكرانهم وإناثهم وشيوخهم وصبيانهم صغارهم وكبارهم - إلا الرهبان ، فإن قوما رأوا أن يتركوا ولا يؤسروا ، بل يتركوا دون أن يعرض إليهم لا بقتل ولا باستعباد ; لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "  فذروهم وما حبسوا أنفسهم إليه     " . واتباعا لفعل  أبي بكر     .  
وأكثر العلماء على أن الإمام مخير في الأسارى في خصال : منها أن يمن عليهم ، ومنها أن يستعبدهم ، ومنها أن يقتلهم ، ومنها أن يأخذ منهم الفداء ، ومنها أن يضرب عليهم الجزية . وقال قوم : لا يجوز  قتل الأسير      . وحكى  الحسن بن محمد التميمي  أنه إجماع الصحابة .  
والسبب في اختلافهم : تعارض الآية في هذا المعنى وتعارض الأفعال ، ومعارضة ظاهر الكتاب لفعله - عليه الصلاة والسلام - :  
وذلك أن ظاهر قوله - تعالى - : (  فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب      ) الآية ، أنه ليس للإمام بعد الأسر إلا المن أو الفداء وقوله - تعالى - : (  ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض      ) الآية ، والسبب الذي نزلت فيه من أسارى  بدر   يدل على أن القتل أفضل من الاستعباد . وأما هو - عليه الصلاة والسلام - فقد      [ ص: 314 ] قتل الأسارى في غير ما موطن ، وقد من واستعبد النساء . وحكى  أبو عبيد  أنه لم يستعبد أحرار ذكور العرب ، وأجمعت الصحابة بعده على استعباد أهل الكتاب ذكرانهم وإناثهم .  
فمن رأى أن الآية الخاصة بفعل الأسارى ناسخة لفعله قال : لا يقتل الأسير ، ومن رأى أن الآية ليس فيها ذكر لقتل الأسير ولا المقصود منها حصر ما يفعل بالأسارى بل فعله - عليه الصلاة والسلام - وهو حكم زائد على ما في الآية ، ويحط العتب الذي وقع في ترك قتل أسارى  بدر   قال : بجواز قتل الأسير .  
والقتل إنما يجوز إذا لم يكن يوجد بعد تأمين ، وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين ، وإنما اختلفوا فيمن يجوز تأمينه ممن لا يجوز ، واتفقوا على جواز  تأمين الإمام   ، وجمهور العلماء على جواز  أمان الرجل الحر المسلم   ، إلا ما كان من   ابن الماجشون  يرى أنه موقوف على إذن الإمام .  
واختلفوا في  أمان العبد وأمان المرأة      : فالجمهور على جوازه ، وكان   ابن الماجشون   وسحنون  يقولان : أمان المرأة موقوف على إذن الإمام . وقال  أبو حنيفة     : لا يجوز أمان العبد إلا أن يقاتل .  
والسبب في اختلافهم : معارضة العموم للقياس .  
أما العموم : فقوله - عليه الصلاة والسلام - : "  المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم     " فهذا يوجب أمان العبد بعمومه .  
وأما القياس المعارض له فهو : أن الأمان من شرطه الكمال ، والعبد ناقص بالعبودية ، فوجب أن يكون للعبودية تأثير في إسقاطه قياسا على تأثيرها في إسقاط كثير من الأحكام الشرعية ، وأن يخصص ذلك العموم بهذا القياس .  
وأما اختلافهم في أمان المرأة ، فسببه اختلافهم في مفهوم قوله - عليه الصلاة والسلام - : "  قد أجرنا من أجرت يا  أم هانئ     " . وقياس المرأة في ذلك على الرجل .  
وذلك أن من فهم من قوله - عليه الصلاة والسلام - : "  قد أجرنا من أجرت يا  أم هانئ     " إجازة أمانها لا صحته في نفسه ، وأنه لولا إجازته لذلك لم يؤثر قال : لا أمان للمرأة إلا أن يجيزه الإمام .  
ومن فهم من ذلك أن إمضاءه أمانها كان من جهة أنه قد انعقد وأثر ، لا من جهة أن إجازته هي التي صححت عقده قال : أمان المرأة جائز .  
وكذلك من قاسها على الرجل ولم ير بينهما فرقا في ذلك أجاز أمانها ، ومن رأى أنها ناقصة عن الرجل لم يجز أمانها .  
وكيفما كان فالأمان غير مؤثر في الاستعباد وإنما يؤثر في القتل ، وقد يمكن أن ندخل الاختلاف في هذا من قبل اختلافهم في ألفاظ جموع المذكر هل تتناول النساء أم لا ؟ - أعني : بحسب العرف الشرعي - .  
وأما النكاية التي تكون في النفوس : فهي القتل ، ولا خلاف بين المسلمين أنه يجوز في الحرب قتل المشركين الذكران البالغين المقاتلين . وأما القتل بعد الأسر ففيه الخلاف الذي ذكرنا .  
وكذلك لا خلاف بينهم في أنه لا يجوز قتل صبيانهم ولا قتل نسائهم ما لم تقاتل المرأة والصبي ، فإذا قاتلت المرأة استبيح دمها ، وذلك لما ثبت : " أنه - عليه الصلاة والسلام -  نهى عن قتل النساء والولدان     " ، وقال في امرأة مقتولة : "  ما كانت هذه لتقاتل     " .  
 [ ص: 315 ] واختلفوا في  أهل الصوامع المنتزعين عن الناس والعميان والزمنى والشيوخ   الذين لا يقاتلون والمعتوه والحراث والعسيف ، فقال  مالك     : لا يقتل الأعمى ولا المعتوه ولا أصحاب الصوامع ، ويترك لهم من أموالهم بقدر ما يعيشون به ، وكذلك لا يقتل الشيخ الفاني عنده ، وبه قال  أبو حنيفة  وأصحابه . وقال   الثوري   والأوزاعي     : لا تقتل الشيوخ فقط . وقال   الأوزاعي     : لا تقتل الحراث . وقال   الشافعي  في الأصح عنه : تقتل جميع هذه الأصناف .  
والسبب في اختلافهم : معارضة بعض الآثار بخصوصها لعموم الكتاب ، ولعموم قوله - عليه الصلاة والسلام - الثابت : "  أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله     " الحديث ، وذلك في قوله - تعالى - : (  فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم      ) يقتضي قتل كل مشرك راهبا كان أو غيره ، وكذلك قوله - عليه الصلاة والسلام - : "  أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله     " .  
وأما الآثار التي وردت باستبقاء هذه الأصناف :  
فمنها : ما رواه   داود بن الحصين  عن  عكرمة  عن   ابن عباس     : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم -  كان إذا بعث جيوشه قال : لا تقتلوا أصحاب الصوامع     " .  
ومنها أيضا : ما روي عن   أنس بن مالك  عن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : "  لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا     " خرجه  أبو داود     .  
ومن ذلك أيضا : ما رواه  مالك  عن  أبي بكر  أنه قال : "  ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له " ، وفيه : " ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما     " .  
ويشبه أن يكون السبب الأملك في الاختلاف في هذه المسألة معارضة قوله - تعالى - : (  وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين      ) لقوله - تعالى - : (  فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم      ) الآية .  
فمن رأى أن هذه ناسخة لقوله - تعالى - : (  وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم      ) لأن القتال أولا إنما أبيح لمن يقاتل قال : الآية على عمومها .  
ومن رأى أن قوله - تعالى - : (  وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم      ) وهي محكمة وأنها تتناول هؤلاء الأصناف الذين لا يقاتلون استثناها من عموم تلك .  
وقد احتج   الشافعي  بحديث  سمرة  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "  اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم     " . وكأن العلة الموجبة للقتل عنده إنما هي الكفر ، فوجب أن تطرد هذه العلة في جميع الكفار .  
وأما من ذهب إلى أنه لا يقتل  الحراث   ، فإنه احتج في ذلك بما روي  عن   زيد بن وهب  قال : أتانا كتاب  عمر     - رضي الله عنه - وفيه : " لا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تقتلوا وليدا ، واتقوا الله في الفلاحين     " . وجاء في حديث  رباح بن ربيعة  النهي عن قتل العسيف المشرك وذلك : "  أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها ، فمر  رباح  وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة مقتولة ، فوقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها ثم قال : ما كانت هذه لتقاتل ، ثم نظر في وجوه القوم فقال لأحدهم : الحق   بخالد بن الوليد  فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا ولا امرأة     " .  
 [ ص: 316 ] والسبب الموجب بالجملة لاختلافهم : اختلافهم في العلة الموجبة للقتل : فمن زعم أن العلة الموجبة لذلك هي الكفر لم يستثن أحدا من المشركين ، ومن زعم أن العلة في ذلك إطاقة القتال للنهي عن قتل النساء مع أنهن كفار استثنى من لم يطق القتال ومن لم ينصب نفسه إليه كالفلاح والعسيف . وصح النهي عن المثلة .  
واتفق المسلمون على جواز قتلهم بالسلاح ، واختلفوا في تحريقهم بالنار : فكره قوم تحريقهم بالنار ورميهم بها ، وهو قول  عمر  ، ويروى عن  مالك     . وأجاز ذلك   سفيان الثوري  ، وقال بعضهم : إن ابتدأ العدو بذلك جاز وإلا فلا .  
والسبب في اختلافهم : معارضة العموم للخصوص :  
أما العموم قوله - تعالى - : (  فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم      ) ولم يستثن قتلا من قتل .  
وأما الخصوص : فما ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في رجل : "  إن قدرتم عليه فاقتلوه ، ولا تحرقوه بالنار ، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار     " .  
واتفق عوام الفقهاء على جواز  رمي الحصون بالمجانيق   ، سواء كان فيها نساء وذرية أو لم يكن لما جاء : "  أن النبي - عليه الصلاة والسلام - نصب المنجنيق على أهل الطائف     " .  
وأما إذا كان الحصن فيه أسارى من المسلمين وأطفال من المسلمين : فقالت طائفة : يكف عن رميهم بالمنجنيق ، وبه قال   الأوزاعي     . وقال  الليث     : ذلك جائز .  
ومعتمد من لم يجزه قوله - تعالى - : (  لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما      ) الآية . وأما من أجاز ذلك فكأنه نظر إلى المصلحة .  
فهذا هو مقدار النكاية التي يجوز أن تبلغ بهم في نفوسهم ورقابهم .  
وأما النكاية التي تجوز في أموالهم : وذلك في المباني والحيوان والنبات فإنهم اختلفوا في ذلك : فأجاز  مالك  قطع الشجر والثمار وتخريب العامر   ، ولم يجز قتل المواشي ولا تحريق النخل . وكره   الأوزاعي  قطع الشجر المثمر وتخريب العامر كنيسة كان أو غير ذلك ، وقال   الشافعي     : تحرق البيوت والشجر إذا كانت لهم معاقل ، وكره تخريب البيوت وقطع الشجر إذا لم يكن لهم معاقل .  
والسبب في اختلافهم : مخالفة فعل  أبي بكر  في ذلك لفعله - عليه الصلاة والسلام - ، وذلك أنه ثبت : " أنه - عليه الصلاة والسلام -  حرق نخل  بني النضير      " . وثبت عن  أبي بكر  أنه قال : "  لا تقطعن شجرا ولا تخربن عامرا     " ، فمن ظن أن فعل  أبي بكر  هذا إنما كان لمكان علمه بنسخ ذلك الفعل منه - صلى الله عليه وسلم - إذ لا يجوز على  أبي بكر  أن يخالفه مع علمه بفعله ، أو رأى أن ذلك كان خاصا  ببني النضير   لغزوهم قال بقول  أبي بكر     . ومن اعتمد فعله - عليه الصلاة والسلام - ولم ير قول أحد ولا فعله حجة عليه قال بتحريق الشجر .  
وإنما فرق  مالك  بين الحيوان والشجر لأن قتل الحيوان مثلة ، وقد نهي عن المثلة ، ولم يأت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قتل حيوانا .  
 [ ص: 317 ] فهذا هو معرفة النكاية التي يجوز أن تبلغ من الكفار في نفوسهم وأموالهم .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					