القول فيه يشتمل على خمسة فصول بعد القول بوجوبه : الفصل الأول : في أنواع الدعاوي الموجبة له وشروطها .      [ ص: 488 ] الفصل الثاني : في صفات المتلاعنين . الثالث : في صفة اللعان . الرابع : في حكم نكول أحدهما ، أو رجوعه . الخامس : في الأحكام اللازمة لتمام اللعان .  
فأما  الأصل في وجوب اللعان      : أما من الكتاب فقوله تعالى : (  والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم      ) . الآية . وأما من السنة فما رواه  مالك  ، وغيره من مخرجي الصحيح من  حديث  عويمر العجلاني     " إذ جاء إلى  عاصم بن عدي العجلاني  رجل من قومه ، فقال له : يا  عاصم  ، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله ، فتقتلوه ؟ أم كيف يفعل ؟ سل يا  عاصم  عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل  عاصم  عن ذلك رسول الله ، فلما رجع عاصم إلى أهله جاء  عويمر  فقال : يا  عاصم  ، ماذا قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لم تأتني بخير ، قد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسألة التي سألت عنها ، فقال : والله لا أنتهي حتى أسأله عنها ، فأقبل  عويمر  حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسط الناس ، فقال : يا رسول الله ، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله ، فتقتلوه أم كيف يفعل ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : قد نزل فيك وفي صاحبتك قرآن ، فاذهب فأت بها ، وقال  سهل     : فتلاعنا ، وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغا من تلاعنهما ، قال  عويمر     : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ! فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم     " . قال  مالك     : قال   ابن شهاب     : فلم تزل تلك سنة المتلاعنين .  
وأيضا من جهة المعنى لما كان  الفراش موجبا للحوق النسب   كان بالناس ضرورة إلى طريق ينفونه به إذا تحققوا فساده ، وتلك الطريق هي اللعان ، فاللعان حكم ثابت بالكتاب ، والسنة ، والقياس ، والإجماع ، إذ لا خلاف في ذلك أعلمه ، فهذا هو القول في إثبات حكمه .  
الفصل الأول في أنواع الدعاوي الموجبة له وشروطها .  
وأما  صور الدعاوي التي يجب بها اللعان   فهي أولا صورتان : إحداهما دعوى الزنا ، والثانية نفي الحمل .  
ودعوى الزنا لا يخلو أن تكون مشاهدة ( أعني أن يدعي أنه شاهدها تزني كما يشهد الشاهد على الزنا ) ، وأن تكون دعوى مطلقة .  
وإذا نفي الحمل فلا يخلو أن ينفيه أيضا نفيا مطلقا ، أو يزعم أنه لم يقربها بعد استبرائها ، فهذه أربعة أحوال بسائط ، وسائر الدعاوي تتركب عن هذه ، مثل أن يرميها بالزنا وينفي الحمل ، أو يثبت الحمل ويرميها بالزنا .  
فأما وجوب  اللعان بالقذف بالزنا   إذا ادعى الرؤية فلا خلاف فيه ، قالت المالكية : إذا زعم أنه لم يطأها بعد .  
 [ ص: 489 ] وأما وجوب اللعان بمجرد القذف ، فالجمهور على جوازه :   الشافعي  ،  وأبو حنيفة  ،   والثوري  ،  وأحمد  ،  وداود  ، وغيرهم . وأما المشهور عن  مالك     : فإنه لا يجوز اللعان عنده بمجرد القذف ، وقد قال  ابن القاسم  أيضا إنه يجوز ، وهي أيضا رواية عن  مالك     . وحجة الجمهور عموم قوله تعالى : (  والذين يرمون أزواجهم      ) . الآية . ولم يخص في الزنا صفة دون صفة ، كما قال في إيجاب حد القذف . وحجة  مالك  ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك . منها قوله في حديث  سعد     : "  أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا     " ، وحديث   ابن عباس  ، وفيه : "  فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : والله يا رسول الله لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به واشتد عليه ، فنزلت : "  والذين يرمون أزواجهم      " الآية ، وأيضا فإن الدعوى يجب أن تكون ببينة كالشهادة . وفي هذا الباب فرع اختلف فيه قول  مالك  ، وهو إذا ظهر بها حمل بعد اللعان ، فعن  مالك  في ذلك روايتان : إحداهما سقوط الحمل عنه ، والأخرى لحوقه به .  
واتفقوا فيما أحسب أن من شرط الدعوى الموجبة اللعان برؤية الزنا أن تكون في العصمة . واختلفوا  فيمن قذف زوجته بدعوى الزنا ، ثم طلقها ثلاثا هل يكون بينهما لعان أم لا ؟   فقال  مالك  ،   والشافعي  ،   والأوزاعي  ، وجماعة : بينهما لعان; وقال  أبو حنيفة     : لا لعان بينهما إلا أن ينفي ولدا ولا حد ; وقال  مكحول  ،  والحكم  ،  وقتادة     : يحد ولا يلاعن .  
وأما إن  نفى الحمل      : فإنه كما قلنا على وجهين : أحدهما أن يدعي أنه استبرأها ولم يطأها بعد الاستبراء ، وهذا ما لا خلاف فيه . واختلف قول  مالك  في الاستبراء ، فقال مرة : ثلاث حيض ، وقال مرة : حيضة . وأما نفيه مطلقا ، فالمشهور عن  مالك  أنه لا يجب بذلك لعان . وخالفه في هذا   الشافعي  ،  وأحمد  ،  وداود  ، وقالوا : لا معنى لهذا لأن المرأة قد تحمل مع رؤية الدم; وحكى  عبد الوهاب  عن أصحاب   الشافعي  أنه لا يجوز نفي الحمل مطلقا من غير قذف .  
واختلفوا من هذا الباب في فرع ، وهو وقت نفي الحمل ، فقال الجمهور : ينفيه وهي حامل ، وشرط  مالك  أنه متى لم ينفه وهو حمل لم يجز له أن ينفيه بعد الولادة بلعان; وقال   الشافعي     : إذا علم الزوج بالحمل فأمكنه الحاكم من اللعان فلم يلاعن لم يكن له أن ينفيه بعد الولادة; وقال  أبو حنيفة     : لا ينفي الولد حتى تضع .  
وحجة  مالك  ، ومن قال بقوله الآثار المتواترة من حديث   ابن عباس  ،   وابن مسعود  ،  وأنس  ،   وسهل بن سعد     : "  أن النبي - عليه الصلاة والسلام - حين حكم باللعان بين المتلاعنين قال : إن جاءت به على صفة كذا فما أراه إلا قد صدق عليها     " ، قالوا : وهذا يدل على أنها كانت حاملا في وقت اللعان . وحجة  أبي حنيفة  أن الحمل قد ينفش ويضمحل ، فلا وجه للعان إلا على يقين . ومن حجة الجمهور : أن الشرع قد علق بظهور الحمل أحكاما كثيرة : كالنفقة ، والعدة ، ومنع الوطء ، فوجب أن يكون قياس اللعان كذلك ، وعند  أبي حنيفة  أنه يلاعن ، وإن لم ينف الحمل إلا وقت الولادة ، وكذلك ما قرب من الولادة ، ولم يوقت      [ ص: 490 ] في ذلك وقتا ، ووقت صاحباه  أبو يوسف  ،  ومحمد  ، فقالا : له أن ينفيه ما بين أربعين ليلة من وقت الولادة; والذين أوجبوا اللعان في وقت الحمل اتفقوا على أن له نفيه في وقت العصمة ، واختلفوا في نفيه بعد الطلاق ، فذهب  مالك  إلى أنه له ذلك في جميع المدة التي يلحق الولد فيها بالفراش ، وذلك هو أقصى زمان الحمل عنده ، وذلك نحو من أربع سنين عنده ، أو خمس سنين ، وكذلك عنده حكم نفي الولد بعد الطلاق إذا لم يزل منكرا له ، وبقريب من هذا المعنى قال   الشافعي     . وقال قوم : ليس له أن ينفي الحمل إلا في العدة فقط ، وإن نفاه في غير العدة حده وألحق به الولد ، فالحكم يجب به عند الجمهور إلى انقضاء أطول مدة الحمل على اختلافهم في ذلك ، فإن الظاهرية ترى أن أقصر مدة الحمل التي يجب بها الحكم هو المعتاد من ذلك ، وهي التسعة أشهر وما قاربها ، ولا اختلاف بينهم أنه يجب الحكم به في مدة العصمة ، فما زاد على أقصر مدة الحمل وهي الستة أشهر ( أعني : أن يولد المولود لستة أشهر من وقت الدخول أو إمكانه ، لا من وقت العقد ) ، وشذ  أبو حنيفة  ، فقال : من وقت العقد ، وإن علم أن الدخول غير ممكن . حتى أنه إن تزوج عنده رجل بالمغرب الأقصى امرأة بالمشرق الأقصى ، فجاءت بولد لرأس ستة أشهر من وقت العقد أنه يلحق به إلا أن ينفيه بلعان ، وهو في هذه المسألة ظاهري محض ، لأنه إنما اعتمد في ذلك عموم قوله عليه - الصلاة والسلام : "  الولد للفراش     " ، وهذه المرأة قد صارت فراشا له بالعقد ، فكأنه رأى أن هذه عبادة غير معللة ، وهذا شيء ضعيف .  
واختلف قول  مالك  من هذا الباب في فرع ، وهو أنه إذا ادعى أنها زنت واعترف بالحمل ، فعنه في ذلك ثلاث روايات : إحداها أنه يحد ، ويلحق به الولد ، ولا يلاعن . والثانية : أنه يلاعن وينفي الولد . والثالثة : أنه يلحق به الولد ويلاعن ليدرأ الحد عن نفسه . وسبب الخلاف : هل يلتفت إلى إثباته مع موجب نفيه وهو دعواه الزنا ؟  
واختلفوا أيضا من هذا الباب في فرع وهو :  إذا أقام الشهود على الزنا هل له أن يلاعن أم لا ؟   فقال  أبو حنيفة  ،  وداود     : لا يلاعن ، لأن اللعان إنما جعل عوض الشهود لقوله تعالى : "  والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم      " الآية . وقال  مالك  ،   والشافعي     : يلاعن ، لأن الشهود لا تأثير لهم في دفع الفراش .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					