[ ص: 276 ] المسألة الرابعة عشرة  
إعمال الرأي في القرآن   جاء ذمه ، وجاء أيضا ما يقتضي إعماله ، وحسبك من ذلك ما نقل  عن   الصديق     ; فإنه نقل عنه أنه قال وقد سئل في شيء من القرآن : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ؟  وربما روي فيه :  إذا قلت في كتاب الله برأيي ثم سئل عن الكلالة المذكورة في القرآن ; فقال : أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا ; فمن الله ، وإن كان خطأ ; فمني ومن الشيطان ، الكلالة كذا وكذا     .  
فهذان قولان اقتضيا إعمال الرأي وتركه في القرآن ، وهما لا يجتمعان والقول فيه أن الرأي ضربان :      [ ص: 277 ] أحدهما : جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة ; فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما لأمور :      [ ص: 278 ] أحدها : إن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنى ، واستنباط حكم ، وتفسير لفظ ، وفهم مراد ، ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم ; فإما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها ، وذلك غير ممكن ; فلا بد من القول فيه بما يليق .  
والثاني : أنه لو كان كذلك ; للزم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مبينا ذلك كله بالتوقيف ; فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول ، والمعلوم أن عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه بل بين منه ما لا يوصل إلى علمه إلا به ، وترك كثيرا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم ; فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف .  
والثالث : أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم ، وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا ، ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه ، والتوقيف ينافي هذا ; فإطلاق القول بالتوقيف والمنع من الرأي لا يصح      [ ص: 279 ] والرابع : أن هذا الفرض لا يمكن ; لأن النظر في القرآن من جهتين : من جهة الأمور الشرعية ; فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأي والنظر جدلا .  
ومن جهة المآخذ العربية ، وهذا لا يمكن فيه التوقيف ، وإلا لزم ذلك في السلف الأولين ، وهو باطل ; فاللازم عنه مثله ، وبالجملة ; فهو أوضح من إطناب فيه .  
وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية أو الجاري على الأدلة      [ ص: 280 ] الشرعية ; فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال كما كان مذموما في القياس أيضا ، حسبما هو مذكور في كتاب القياس ; لأنه تقول على الله بغير برهان فيرجع إلى الكذب على الله تعالى .  
وفي هذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأي في القرآن ما جاء ; كما روي  عن   ابن مسعود     : ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله ، وقد نبذوه وراء ظهورهم ; فعليكم بالعلم ، وإياكم والتبدع ، وإياكم والتنطع ، وعليكم بالعتيق     .  
وعن   عمر بن الخطاب     : إنما أخاف عليكم رجلين : رجل يتأول القرآن على غير تأويله ، ورجل ينافس الملك على أخيه     .  
وعن  عمر  أيضا : ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه ، ولا من      [ ص: 281 ] فاسق بين فسقه ، ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ، ثم تأوله على غير تأويله     .  
والذي ذكر  عن   أبي بكر الصديق  أنه سئل عن قوله :  وفاكهة وأبا      [ عبس : 31 ] فقال : أي سماء تظلني  الحديث .  
وسأل رجل   ابن عباس  عن  يوم كان مقداره خمسين ألف سنة      [ المعارج : 4 ] فقال له   ابن عباس     : فما  يوم كان مقداره ألف سنة      [ السجدة : 5 ] ؟ فقال الرجل : إنما سألتك لتحدثني فقال   ابن عباس     : هما يومان ذكرهما الله في كتابه ، الله أعلم بهما ، نكره أن نقول في كتاب الله ما لا نعلم     .  
وعن   سعيد بن المسيب  أنه كان إذا سئل عن شيء من القرآن ; قال أنا      [ ص: 282 ] لا أقول في القرآن شيئا وسأله رجل عن آية ; فقال : لا تسألني عن القرآن ، وسل عنه من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه  يعني  عكرمة  وكأن هذا الكلام مشعر بالإنكار على من يزعم ذلك .  
وقال   ابن سيرين     : سألت  عبيدة  عن شيء من القرآن ; فقال اتق الله ، وعليك بالسداد ; فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن ؟  وعن  مسروق     ; قال : اتقوا التفسير ; فإنما هو الرواية عن الله وعن  إبراهيم     ; قال : كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه  وعن   هشام بن عروة     ; قال : ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله      [ ص: 283 ] وإنما هذا كله توق وتحرز أن يقع الناظر فيه في الرأي المذموم ، والقول فيه من غير تثبت ،  وقد نقل عن   الأصمعي  وجلالته في معرفة كلام العرب معلومة أنه لم يفسر قط آية من كتاب الله ، وإذا سئل عن ذلك لم يجب ، انظر الحكاية عنه في الكامل  للمبرد     .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					