
مَعْرفة أسماء الله الحُسنى وصفاته العليا الواردة في الكتاب والسُنة، والحرص على فهم معانيها، والتعبُّد لله عز وجل بها، مِنْ أعظم ما يُقوّي الإيمان ويزيده، قال الله تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأعراف:180). قال السعدي: "هذا بيان لعظيم جلاله وسعة أوصافه، بأن له الأسماء الحسنى". ومِن القواعِد المقرَّرة عند أهل العلم أنَّ شرَف العلم بشرَف المعلوم، ولا عِلم أشرف مِن العلم بالله عز وجل وأسمائه الحسنى وصفاته العليا. قال ابن القيم في "بدائع الفوائد": "فالعلم بالأسماء والصفات، والتعبد بها هو قطب السعادة، ورَحَى الفلاح والنجاح، مَنْ رام السعادة وابتغاها فليأخذ نفسه بأسماء الله وصفاته، فبها الأنس كله، والأمن كله، وما راحة القلب وسعادته إلا بها، لأنها تتعلق بمن طِبُّ القلوب بيديه، وسعادتها بالوصول إليه"..
وأسماء الله تعالى وصفاته توقيفية مصدرها القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، لا مجال للعقل والاجتهاد فيها. وأهل السنة يثبتون ما أثبته الله عز وجل لنفسه ـ مِنْ أسماء وصفات ـ في كتابه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، مِن غير تحريف ولا تعطيل، ومِن غير تكييف ولا تمثيل، فإنه سبحانه الكامل في أسمائه الحسنى وصفاته العُلى، فلا مثيل له في ربوبيته، ولا مثيل له في إلهيته، ولا مثيل له في أسمائه وصفاته، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الشورى:11). قال القرطبي: "والذي يُعْتقد في هذا الباب أن الله جلَّ اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته وحُسْنى أسمائه وعَليّ صفاته، لا يشبه شيئا مِنْ مخلوقاته ولا يُشبه به {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}". وقال السعدي: "{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء مِنْ مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأنَّ أسماءه كلها حُسْنَى، وصفاته صفات كمال وعظمة، وأفعاله تعالى أوْجد بها المخلوقات العظيمة مِن غير مشارِك، فليس كمثله شيء، لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه.. وهذه الآية ونحوها، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة مِن إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات. وفيها رد على المُشَبِّهَة في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وعلى المُعَطِّلة في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}". وقال ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية": "ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، مِن غير تحريف ولا تعطيل، ومِن غير تكييف ولا تمثيل. يثبتون له الأسماء والصفات".
و"الحِلْم" صفةٌ مِن صفات الله عز وجل، و"الحَليم" اسمٌ مِن أسمائِه تعالى.. ومعنى هذه الصفة "الحِلم" أن الله متصف بالصفح والعفو مع القدرة على إيقاع العقوبة، فهو سبحانه لا يستفزه غضب غاضب، ولا يستخفه جهل جاهل، ولا عصيان عاص، ولا يستحق وصف الحلم مَنْ صفح عَنْ ضعف، وإنما الحليم هو الصفوح مع القدرة، المُتأني الذي لا يُعجل بالعقوبة. قال الطبري: "(حليم) لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم". وقال الزَّجَّاجيُّ: "اللهُ عَزَّ وجلَّ حليمٌ عن عبادِه، لأنَّه يعفو عن كثيرٍ مِنْ سيِّئاتِهم، ويُمهِلُهم بعد المعصية، ولا يُعاجِلُهم بالعقوبة والانتقام، ويَقبَل توبتَهم بعد ذلك". وقال الخطَّابيُّ في "شأن الدعاء": "(الحليم): هو ذو الصَّفح والأناة، الذي لا يَستفِزُّه غَضَبٌ، ولا يستخِفُّه جَهلُ جاهِلٍ، ولا عصيانُ عاصٍ، ولا يستحِقُّ الصَّافِحُ مع العجزِ اسمَ الحِلم، إنَّما الحليم هو الصَّفوح مع القُدرة، والمتأنِّي الذي لا يَعجَل بالعقوبة". وقال الحليمي في "المنهاج في شعب الإيمان":(الحليم): الذي لا يَحبِسُ أنعامَه وأفضالَه عن عبادِه لأجْلِ ذُنوبِهم، ولكِنْ يَرزُق العاصِي كما يرزُق المطيع، ويُبقيه وهو منهَمِكٌ في معاصيه، كما يُبقي البَرَّ التَّقِيَّ، وقد يقيه الآفاتِ والبلايا وهو غافِلٌ لا يَذكُرُه، فضلًا عن أن يدعوَه، كما يقيها الناسِكَ الذي يسألُه، وربما شغَلَتْه العبادة عنِ المسألة".
و"الحلم" صفةٌ ثابتةٌ لله عز وجل بالكثير مِن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، ومِنْ ذلك:
أولا: الأدلة مِن القرآن الكريم:
1 ـ قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}(البقرة:235). قال البغوي: "أي: فخافوا الله، واعلموا أن الله غفور حليم، لا يعجل بالعقوبة على مَنْ خالف أمره ونهيه". وقال السعدي: "{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لمن صدرت منه الذنوب، فتاب منها، ورجع إلى ربه {حَلِيمٌ} حيث لم يعاجل العاصين على معاصيهم، مع قدرته عليهم".
2 ـ قال الله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}(البقرة:263). قال ابن كثير: "{وَاللَّهُ غَنِيٌّ} أَيْ: عَنْ خَلْقِه. {حَلِيمٌ} أيْ: يَحْلُم وَيَغْفِر ويَصْفح ويَتَجَاوَز عَنْهُم". وقال الطبري: "وأما قوله: {غَنِيٌّ حَلِيمٌ} فإنه يعني: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ} عما يتصدقون به، {حَلِيمٌ} حين لا يعجل بالعقوبة على مَنْ يَمنُّ بصدقته مِنكم، ويؤذي فيها مَنْ يتصدق بها عليه". وقال القرطبي: "{وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} أَخْبَر تعالى عَنْ غِنَاه الْمُطْلَق أَنَّه غَنِيٌّ عَنْ صَدَقة الْعِباد، وإِنَّما أَمَر بها لِيُثِيبَهُم، وعَنْ حِلْمِه بِأَنَّه لَا يُعَاجِل بِالْعُقُوبَة مَنْ مَنَّ وَآذَى بِصَدَقتِه".
3 ـ قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}(الإسراء:44). قال ابن كثير: "{إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} أَيْ: إِنَّه تعالى لَا يُعَاجِل مَنْ عَصَاه بِالْعُقوبة، بَلْ يُؤَجِّله وَيُنْظِرُه، فإِنِ اسْتَمَرَّ عَلى كُفْرِه وعِنَادِه أَخذه أَخْذ عَزِيزٍ مُقْتَدِر، كما جاء في الصَّحِيحَيْن: (إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي للظَّالِمِ (يُمْهِلُه)، حَتَّى إِذا أَخَذه لَمْ يُفْلِتْه (لم يُطلِقْه، ولم يَنفَلِتْ منه))، ثُمَّ قرَأ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}(هود: 102)".
4 ـ قال الله تعالى: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}(الحج:59). قال السعدي: "{وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ} بالأمور، ظاهرها وباطنها، مُتَقدِّمْها ومُتأخِّرْها، {حَلِيمٌ} يعصيه الخلائق، ويبارزونه بالعظائم، وهو لا يعاجلهم بالعقوبة مع كمال اقتداره، بل يواصل لهم رزقه، ويسدي إليهم فضله".
5 ـ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}(فاطر:41). قال الطبري: "{إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} يقول تعالى: إن الله كان حليمًا عمن أشرك وكفر به مِنْ خَلْقِه في تركه تعجيل عذابه له، غفورًا لذنوب من تاب منهم، وأناب إلى الإيمان به، والعمل بما يرضيه". وقال ابن كثير: "{حَلِيمًا غَفُورًا} أي: يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه وهو يحلم فيؤخر ويُنْظِر، ويؤجل ولا يعجل، ويستر ويغفر لعلهم يتوبوا ويرجعوا".
6 ـ قال تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}(التغابن:17). قال ابن كثير: "{وَاللَّهُ شَكُورٌ} أَيْ: يَجْزِي على الْقَلِيل بِالْكَثِير {حَلِيمٌ} أي: يعفو ويصفح، وَيَغْفِر وَيَسْتُر، وَيَتَجَاوَز عَنِ الذُّنُوب والزَّلَّات، والخطايا وَالسَّيِّئات".
7 ـ وقال الطبري في تفسيره لقول الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}(النحل:61): "يقول تعالى ذكره {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ} عصاة بني آدم بمعاصيهم {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا} يعني على الأرض {مِنْ دَابَّةٍ} تدب عليها {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ} يقول: ولكن بحِلْمِهِ يؤخر هؤلاء الظلمة فلا يعاجلهم بالعقوبة {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} يقول: إلى وقتهم الذي وُقِّت لهم، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} يقول: فإذا جاء الوقت الذي وُقِّت لهلاكهم {لا يَسْتَأْخِرُونَ} عن الهلاك ساعة فيُمْهَلون {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} له حتى يستوفُوا آجالهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل".
ثانيا: الأدلة مِنَ الأحاديث النبوية على صفة "الحلم" لله عز وجل:
1 ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعو عِنْدَ الْكَرْب (الشدة والغم والبلاء) يقول: لا إله إلَّا اللَّهُ العَظيم الحلِيم، لا إله إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ والأرْض، ورَبُّ العَرْشِ العَظِيم) رواه البخاري. قال الكرماني: "(الحليم) لأن كرب المؤمن غالبًا إنما هو على نوع تقصير في الطاعات أو غفلة في الحالات ليشعر برجاء العفو المقلل للحزن.. وفيه العظمة التي تدل على القدرة، إذِ العاجز لا يكون عظيما، والحلم الذي يدل على العالم، إذ الجاهل بالشيء لا يتصور منه الحلم عنه". وقال ابن حجر في "فتح الباري": "قال العلماء: (الْحَلِيم) الَّذِي يُؤَخِّر الْعُقُوبَة مع الْقُدْرَة، والْعَظِيم الَّذي لَا شَيْء يَعْظُم عليه.. وقال الطِّيبِيُّ: والْعَظَمَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلى تَمامِ الْقُدْرَة، وَالْحِلْمُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْعِلْم، إِذِ الْجَاهِلُ لَا يُتَصَوَّر مِنْهُ حِلْمٌ وَلَا كَرَم، وَهُمَا أَصْلُ الْأَوْصَافِ الْإِكْرَامِيَّة".
2 ـ عن يعلى بن أمية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل حليم حيي ستّير، يحب الحياء والستر) رواه النسائي. وهذا من حلمه ورحمته، وكرمه وكماله، سبحانه وتعالى، وحلمه أن العبد يجاهره بالمعاصي مع فقره الشديد إليه، والله عز وجل ـ مع كمال غناه عن الخَلق كلِّهم ـ مِن حلمه وكرمه يستحيي مِنْ فضيحته وإحلال العقوبة به، فيستره بما يقيض له من أسباب الستر، ويعفو عنه ويغفر له.
وقال ابنُ القيِّم في قصيدته "النونية":
وَهُوَ الحَلِيمُ فَلَا يُعِاجِلُ عَبْدَهُ بِعُقُوبَةٍ لِيَتُوبَ مِنْ عِصْيَانِ
قال الشيخ محمد خليل هرَّاس في "شرح النونية": "مِن أسمائِه سُبحانه: الحَليم والعَفُوّ، فالحَليم الذي له الحِلم الكامل، الَّذي وسِعَ أهلَ الكُفرِ والفُسوق والعِصيان، حيث أمهَلَهم ولم يُعاجِلهم بالعقوبة، رجاءَ أن يتوبوا، ولو شاء لأخَذهم بذنوبِهم فورَ صُدورِها منهم، فإنَّ الذُّنوبَ تقتضي ترتُّبَ آثارِها عليها مِن العُقوباتِ العاجلة المُتنوِّعة، ولكنَّ حِلمَه سبحانه هو الذي اقتضى إمهالَهم، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}(فاطر:45)". وقال السعدي في "الحق الواضح المبين": "والله تعالى حليم عفو، فله الحلم الكامل، وله العفو الشامل، ومتعلق هذين الوصفين العظيمين معصية العاصين، وظلم المجرمين، فإن الذنوب تقتضي ترتب آثارها عليها من العقوبات العاجلة المتنوعة، وحلمه تعالى يقتضي إمهال العاصين، وعدم معاجلتهم ليتوبوا، وعفوه يقتضي مغفرة ما صدر منهم من الذنوب خصوصاً إذا أتوا بأسباب المغفرة من الاستغفار، والتوبة، والإيمان، والأعمال الصالحة، وحلمه وسع السماوات والأرض"..
"الحليم" اسم مِنْ أسماء الله تعالى، والحلم صفة من صفاته سبحانه. قال الأصبهاني في "الحُجة في بيان المَحَجة": "ومِن أسماء الله تعالى: الحليم: حليم عمن عصاه لأنه لو أراد أخذه في وقته أخذه، فهو يحلم عنه ويؤخره إلى أجله، وهذا الاسم وإن كان مشتركاً يوصف به المخلوق، فحلم المخلوقين حلم لم يكن في الصغر ثم كان في الكبر، وقد يتغير بالمرض، والغضب، والأسباب الحادثة، ويفنى حلمه بفنائه، وحلم الله عز وجل لم يزل ولم يزول. والمخلوق يحلم عن شيء ولا يحلم عن غيره، ويحلم عمن لا يقدر عليه، والله تعالى حليم مع القدرة"..
والله عز وجل يحب أن يرى أثر صفاته على عبده المؤمن الذي علم وآمن بصفاته على ما يليق به سبحانه.. قال ابن القيم في "مدارج السالكين": "لا يستقر للعبد قدم في المعرفة، بل ولا في الإيمان، حتى يؤمن بصفات الرّب ويعرفها معرفة تخرج عن حدّ الجهل بربه، فالإيمان بالصفات وتعرّفها هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان، وثمرة شجرة الإحسان". وقال ابن حجر: "قال ابن بطال: طريق العمل بها (العلم والإيمان بأسماء الله وصفاته) أن الذي يسوغ الاقتداء به فيها، كالرحيم، والكريم، فإن الله يحب أن يرى حلاها (أثرها) على عبده، فَلْيُمَرِّن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها، وما كان يختص بالله تعالى، كالجبار، والعظيم، فيجب على العبد الإقرار بها، والخضوع لها، وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه معنى الوعد نقف منه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد نقف منه عند الخشية والرهبة..".
وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أَشَجِّ عَبْدِ القَيْسِ رضي الله عنه لاتصافه بالحلم إذ قال له: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) رواه مسلم. قال القرطبيُّ: "مِن الواجِب على مَنْ عَرَف أنَّ رَبَّه حَليمٌ على مَنْ عصاه، أن يحلُم هو على مَن خالف أمْرَه، فذاك به أَوْلى حتى يكونَ حَليمًا فينال مِن هذا الوَصفِ بمقدارِ ما يكسِرُ سَورةَ (شدة) غَضَبِه، ويرفَع الانتقامَ عمَّن أساء إليه، بل يتعوَّد الصَّفحَ حتى يعودَ الحِلمُ له سَجِيَّة. وكما تحِبُّ أن يحلُمَ عنك مالِكُك، فاحلُمْ أنت عمَّن تملِك، لأنَّك مُتعَبَّدٌ بالِحلمِ مثابٌ عليه، قال الله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}(الشورى:40)، وقال تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}(الشورى:43)".