ونحن [ نسلك طريقين من البيان : أحدهما : نبين فيه أن هؤلاء الذين رد عليهم من مثبتي الرؤية  كالأشعري  وغيره أقرب إلى الصواب من قول النفاة . الثاني : نبين في الحق بيانا مطلقا لا نذب فيه عن أحد . 
الطريق الأول : أن ] [1] نبين أن هذه الطائفة وغيرها من الطوائف المثبتة للرؤية  [2] أقل خطأ وأكثر صوابا من نفاة الرؤية . ونقول لهؤلاء النفاة [ للرؤية ] [3]  : أنتم أكثرتم التشنيع على الأشعرية   [ ومن وافقهم من أتباع الأئمة ] [4] في مسألة الرؤية   . ونحن نبين أنهم أقرب إلى الحق منكم [ نقلا  [ ص: 330 ] وعقلا ] [5] ، وأن قولهم إذا كان فيه خطأ فالخطأ [ الذي في ] [6] قولكم أعظم وأفحش [7]  [ عقلا ونقلا ] [8]  . 
فإذا قلتم : هؤلاء إذا أثبتوا مرئيا لا [9] في جهة كان هذا [10] مكابرة للعقل . 
قيل لكم : لا يخلو [11] إما أن تحكموا في هذا الباب العقل ، وإما أن لا تحكموه [12] ، فإن لم تحكموه بطل قولكم ، وإن حكمتموه فقول من أثبت موجودا قائما بنفسه يرى أقرب إلى العقل [13] من قول من أثبت موجودا قائما بنفسه لا يرى . ولا يمكن أن يرى . و [ ذلك ] لأن [14] الرؤية لا يجوز أن يشترط في ثبوتها أمور عدمية بل لا يشترط في ثبوتها [15] إلا أمور وجودية . 
ونحن لا ندعي هنا أن كل موجود يرى كما ادعى [16] ذلك من ادعاه فقامت عليه الشناعات ، [ فإن ابن كلاب   ومن اتبعه من أتباع الأئمة  [ ص: 331 ] الأربعة وغيرهم قالوا : كل قائم بنفسه يرى ، وهكذا قالت الكرامية   وغيرهم فيما أظن ، وهذه الطريقة التي سلكها ابن الزاغوني  من أصحاب  أحمد   . 
وأما  الأشعري   فادعى أن كل موجود يجوز أن يرى ، ووافقه على ذلك طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة  كالقاضي أبي يعلى  وغيره ، ثم طرد قياسه فقال : كل موجود يجوز أن تتعلق به الإدراكات الخمس : السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، ووافقه على ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي أبي بكر   وأبي المعالي  والرازي  ، وكذلك  القاضي أبو يعلى  وغيرهم ، وخالفهم غيرهم فقالوا : لا نثبت في ذلك الشم والذوق واللمس ، ونفوا جواز تعلق هذه بالبارئ ، والأولون جوزوا تعلق الخمس بالبارئ ، وآخرون من أهل الحديث وغيرهم أثبتوا ما جاء به السمع من اللمس دون الشم والذوق ، وكذلك المعتزلة  منهم من أثبت جنس الإدراك كالبصريين ، ومنهم من نفاه كالبغداديين . والمقصود هنا بأن المثبتة ، ولو أخطئوا في بعض كلامهم فهم أقرب إلى الحق نقلا وعقلا من نفاة الرؤية ] [17]  . 
فنقول [18]  : من الأشياء ما يرى ومنها ما لا يرى ، والفارق بينهما لا يجوز أن يكون أمورا عدمية ; لأن الرؤية أمر وجودي [ والمرئي لا يكون إلا موجودا ، فليست عدمية ] [19] لا تتعلق [20] بالمعدوم ، ولا [21] يكون الشرط فيه  [ ص: 332 ] إلا أمرا وجوديا [ لا يكون عدميا ، وكل ما لا يشترط فيه إلا الوجود دون العدم كان بالوجود الأكمل أولى منه بالأنقص ] [22] ، فكل ما كان [23] وجوده أكمل كان أحق بأن يرى ، وكل ما لم يمكن أن يرى فهو أضعف وجودا [ مما يمكن أن يرى ] [24] ، فالأجسام الغليظة أحق بالرؤية [ من الهواء [25] ، والضياء أحق بالرؤية ] من الظلام ; لأن النور أولى بالوجود ، والظلمة أولى بالعدم ، والموجود الواجب الوجود أكمل الموجودات وجودا وأبعد [26] الأشياء عن العدم فهو أحق بأن يرى ، وإنما لم نره [27] لعجز أبصارنا عن رؤيته لا لأجل امتناع رؤيته ، كما أن شعاع الشمس أحق بأن يرى من جميع الأشياء . 
ولهذا مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - رؤية الله به فقال : " ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر  " شبه الرؤية بالرؤية ، وإن لم يكن المرئي مثل المرئي ، ومع هذا فإذا حدق البصر في الشعاع [28] ضعف عن رؤيته ، لا لامتناع في [ ذات ] [29] المرئي بل لعجز الرائي ، فإذا كان في  [ ص: 333 ] الدار الآخرة أكمل الله [ تعالى ] [30] الآدميين وقواهم حتى أطاقوا رؤيته ، ولهذا لما تجلى الله [ عز وجل ] [31] للجبل خر موسى  صعقا ( فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين   ) [ سورة الأعراف : 143 ] . قيل : أول المؤمنين [32] بأنه لا يراك حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده [33] ، فهذا للعجز [34] الموجود في المخلوق ، لا لامتناع في ذات المرئي ، بل كان المانع من ذاته ، لم يكن إلا لنقص وجوده حتى ينتهي الأمر إلى المعدوم الذي لا يتصور أن يرى [ خارج الرائي ] [35]  . 
[ ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته إلا من أيده الله ، كما أيد نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى : ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون  ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون   ) [ سورة الأنعام : 8 ، 9 ] قال غير واحد من السلف : هم لا يطيقون أن يروا الملك في صورته ، فلو أنزلنا إليهم ملكا لجعلناه في صورة بشر ، وحينئذ كان يشتبه عليهم هل هو ملك أو بشر ، فما كانوا ينتفعون بإرسال الملك إليهم ، فأرسلنا إليهم بشرا من جنسهم يمكنهم رؤيته والتلقي عنه ، وكان هذا من تمام الإحسان إلى الخلق والرحمة ، ولهذا قال تعالى : ( وما صاحبكم بمجنون   ) [ سورة التكوير : 22 ] ،  [ ص: 334 ] وقال : ( ما ضل صاحبكم وما غوى   ) [ سورة النجم : 2 ] وقال : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم   ) [ سورة التوبة : 128 ] وقال : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم   ) [ سورة إبراهيم : 4 ] ونحو ذلك من الآيات ] [36]  . 
فإن قلتم : هؤلاء [37] يقولون : إنه يرى لا في جهة ، وهذه مكابرة . فيقال : هذا قالوه بناء على الأصل الذي اتفقتم أنتم [38] وهم عليه ، وهو أنه ليس في جهة . ثم إذا كان الكلام مع  الأشعري  وأئمة أصحابه ومن وافقهم من [ أصحاب الحديث ] [39] ، أصحاب  أحمد  وغيره كالتميميين  وابن عقيل  [40] وغيرهم : فيقال : هؤلاء يقولون : إنه فوق العالم بذاته ، وإنه ليس بجسم ولا متحيز . 
فإن قلتم : هذا القول مكابرة للعقل ، لأنه إذا كان فوق العالم فلا بد أن يتميز [41] منه جانب عن جانب ، [ وإذا تميز منه جانب عن جانب ] [42] كان جسما ، فإذا أثبتوا موجودا قائما بنفسه فوق العرش [43] لا يوصف بمحاذاة  [ ص: 335 ] ولا مماسة [44] ، ولا يتميز [45] منه جانب عن جانب كان هذا مكابرة . 
فيقال : لكم : أنتم [ يا نفاة الرؤية   ] [46] تقولون ومن وافقكم من المثبتين للرؤية : إنه لا داخل العالم ولا خارجه ، ولا مباين له ولا محايث له [47]  . 
فإذا قيل لكم : هذا خلاف المعلوم بضرورة العقل [48] ، فإن العقل لا يثبت شيئين موجودين إلا أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو داخلا فيه ، كما يثبت [49] الأعيان المتباينة والأعراض القائمة . بها وأما إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه ، فهذا مما يعلم العقل [50] استحالته وبطلانه بالضرورة . 
قلتم [51]  : هذا النفي حكم الوهم لا حكم العقل ، وجعلتم في الفطرة حاكمين [52]  : أحدهما الوهم والآخر العقل ، مع أن المعنى الذي سميتموه الوهم قلتم [53] هو القوة التي تدرك معاني جزئية غير محسوسة في الأعيان المحسوسة ، كالعداوة والصداقة ، كما تدرك الشاة معنى في الذئب ومعنى في الكبش ، فتميل إلى هذا وتنفر عن هذا . وإذا كان الوهم إنما  [ ص: 336 ] يدرك أمورا [54] معينة فهذه القضايا التي نتكلم فيها قضايا كلية عامة ، والقضايا الكلية العامة هي للعقل لا للحس ولا للوهم الذي يتبع الحس ، فإن الحس لا يدرك إلا أمورا معينة ، وكذلك الوهم [ عندكم ] [55]  . وقد بسط الرد على هؤلاء [56] في غير هذا الموضع ، لكن المقصود هنا بيان أن قول أولئك أقرب من قولهم . 
فيقال : إذا عرضنا على العقل وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ، ولا مباين له ولا محايث له [57] ، ووجود موجود مباين للعالم فوقه وهو ليس بجسم [58] ، كان تصديق العقل بالثاني أقوى من تصديقه بالأول ، وهذا موجود في فطرة كل أحد ، فقبول [59] الثاني أقرب إلى الفطرة ونفورها عن الأول أعظم فإن وجب تصديقكم في ذلك القول الذي هو عن الفطرة أبعد كان تصديق هؤلاء في قولهم أولى . وحينئذ فليس لكم أن تحتجوا على بطلان [60]  ( 8 قولهم بحجة إلا وهي على بطلان قولكم أدل 8 ) [61]  . 
فإذا قلتم : [ وجود موجود فوق العالم ليس بجسم لا يعقل . 
قيل لكم : كما أن [ [62]  ] وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه لا يعقل . 
 [ ص: 337 ] فإذا قلتم : نفي هذا من حكم الوهم . 
قيل لكم : إن كان هذا النفي من حكم الوهم وهو غير مقبول فذلك [63] النفي من حكم الوهم ، وهو غير مقبول بطريق الأولى . 
فإذا قلتم : حكم الوهم الباطل أن يحكم في أمور غير محسوسة حكمه في أمور محسوسة [64]  . 
قيل : لكم [65]  ( * أجوبة : أحدها [66]  : أن هذا يبطل حجتكم على بطلان قول هؤلاء ، لأن قولكم إنه يمتنع [67] وجود موجود فوق العالم ليس بجسم ليس [68] أقوى من قول القائل يمتنع [69] وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ، [ ويمتنع وجود موجودين لا متباينين ولا متحايثين ، ويمتنع وجود موجود ليس داخل العالم ولا خارجا عنه ] [70] ، فإن كنتم لا تقبلون هذا الأقوى لزعمكم أنه من حكم الوهم [71] الباطل لزمكم أن لا تقبلوا ذلك الذي هو أضعف منه بطريق الأولى ، فإن كليهما على قولكم من حكم الوهم الباطل ، وفساد قولكم أبين في الفطرة من فساد [72] قول منازعيكم ، فإن كان قولهم [73] مردودا  [ ص: 337 ] فقولكم أولى بالرد ، وإن كان قولكم مقبولا فقولهم أولى بالقبول . 
الجواب الثاني : أن يقال : * ) : أنتم لم تثبتوا وجود أمور [74] لا يمكن الإحساس بها [ ابتداء ] [75] حتى يصح هذا الكلام ، بل إنما أثبتم ما ادعيتم أنه لا يمكن الإحساس به [ ابتداء ] [76] بإبطال هذا الحكم الفطري [77] الذي يحيل وجود ما لا يمكن الإحساس به بحال [78] ، فإن كان [79] هذا الحكم لا يبطل حتى يثبت [80] الأمور التي ليست بمحسوسة [81] لزم [82] الدور فلا يبطل هذا الحكم حتى يثبت ما لا يمكن الإحساس به ، ولا يثبت ذلك حتى يبطل هذا الحك ، فلا يثبت ذلك . 
[ و ] يقال : [ لكم ] : إن [83] جاز وجود أمور لا يمكن الإحساس بها [84] فوجود ما يمكن الإحساس به أولى [85] وإن لم يمكن بطل قولكم . فمن أثبت موجودا فوق العالم ليس بجسم يمكن الإحساس به ، كان قوله  [ ص: 339 ]  : أقرب إلى العقل ممن أثبت موجودا لا يمكن الإحساس به وليس بداخل العالم ولا خارجه . 
ففي الجملة أنه [86] ما من حجة يحتجون بها على بطلان قول منازعيهم [87] إلا ودلالتها على بطلان قولهم أشد ولكنهم يتناقضون . والذين وافقوهم على بعض غلطهم صاروا [88] يسلمون [89] لهم تلك المقدمة الباطلة النافية [ وهو إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون مباينا لغيره ولا محايثا له [90] ولا داخل العالم ولا خارجه ] [91] ويطلبون [92] طردها ، وطردها يستلزم الباطل المحض . 
فوجه المناظرة أن تلك المقدمة لا تسلم [93] ، لكن يقال : إن كانت باطلة بطل أصل قول النفاة ، [ وإن كانت صحيحة فهي أدل على إمكان قول [94] أهل الإثبات ، فإن كان إثبات موجود ليس بجسم ولا هو داخل العالم ولا خارجه ممكنا ، فإثبات موجود فوق العالم وليس بجسم أولى بالإمكان ، وإن لم يكن ذلك ممكنا بطل أصل قول النفاة ] [95] ، وثبت أن الله [ تعالى ] [96] إما داخل العالم وإما خارجه فيكون قولهم بإثبات موجود  [ ص: 340 ] ليس بداخل العالم ولا خارجه أبعد عن الحق على التقديرين ، وهو المطلوب . 
ثم يقال : رؤية ما ليس بجسم ولا في جهة إما أن يجوزه العقل وإما أن يمنعه ، فإن جوزه فلا كلام ، وإن منعه كان منع العقل لإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه ، بل هو حي بلا حياة ، عليم بلا علم ، قدير بلا قدرة ، أشد وأشد . 
فإن [97] قلتم : هذا المنع من حكم الوهم . 
قيل لكم : والمنع من رؤية مرئي ليس في جهة من حكم الوهم ، وهذا هو الجواب الثالث . 
وبيان ذلك أن [ يقال : ] [98]  : حكم الوهم الباطل عندكم أن يحكم في أمور غير محسوسة [99] بما يحكم به في الأمور المحسوسة . 
فيقال : [100]  : الباري تعالى إما أن تكون رؤيته ممكنة ، وإما أن لا تكون [101]  . فإن كانت ممكنة بطل قولكم بإثبات موجود [102] غير محسوس ، ولم يبق هنا [103] وهم باطل يحكم في غير المحسوس [104] بحكم باطل ، فإنكم لرؤية الباري أشد منعا من رؤية الملائكة والجن وغير ذلك ، فإذا  [ ص: 341 ] جوزتم رؤيته فرؤية الملائكة والجن أولى ، وإن قلتم : بل رؤيته غير ممكنة . قيل : فهو حينئذ [105] غير محسوس فلا يقبل فيه [106] حكم الوهم ، والحكم بأن كل مرئي لا بد أن يكون في جهة من حكم الوهم . 
وأما إذا قدرنا [107] موجودا غير محسوس يرى لا في جهة [ رؤية ] [108] غير الرؤية المتعلقة بذوات الجهة [109] ، كان إبطال هذا مثل إبطال موجود لا داخل العالم ولا خارجه ، [ وإلا ] فإذا [110] ثبت وجود هذا الموجود كانت الرؤية [111] المتعلقة به مناسبة له ، ولم تكن كالرؤية المعهودة للأجسام . 
فهذه الطريق ونحوها من المناظرة العقلية إذا سلك يتبين به أن كل من كان إلى السنة أقرب كان قوله إلى العقل أقرب ، وهو يوجب نصر [112] الأقربين إلى السنة بالعقل لكن لما كان [ بعض ] الأقربين [113] إلى السنة سلموا للأبعدين [114] عنها مقدمات بينهم ، وهي في نفس الأمر باطلة مخالفة للشرع والعقل ، لم يمكن أن يكون قولهم مطابقا للأمر في نفسه ، ولا يمكن نصره لا بشرع صحيح ولا بعقل صريح [115] ، لمن غرضه معرفة الحق في نفسه لا بيان رجحان بعض الأقوال على بعض . 
 [ ص: 342 ] [116]  [ وأما إذا كان المقصود بيان رجحان بعض الأقوال فهذا ممكن في نفسه ، وهذا هو الذي نسلكه في كثير مما عاب به الرافضة  كثير من الطوائف المنتسبين إلى السنة في إثبات خلافة الخلفاء الثلاثة [117] ، فإنهم عابوا كثيرا منهم بأقوال هي معيبة مذمومة ، والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق ، وألا نقول عليه إلا بعلم ، وأمرنا بالعدل والقسط ، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني - فضلا عن الرافضي - قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله ، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق . 
ولهذا جعل هذا الكتاب : " منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيع والقدرية " فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة ردوا ما تقوله المعتزلة  والرافضة  وغيرهم من أهل البدع بكلام فيه أيضا بدعة وباطل ، وهذه طريقة يستجيزها كثير من أهل الكلام ، ويرون أنه يجوز مقابلة الفاسد بالفاسد ، لكن أئمة السنة والسلف على خلاف هذا ، وهم يذمون أهل الكلام المبتدع الذين يردون باطلا بباطل وبدعة ببدعة ، ويأمرون ألا يقول الإنسان إلا الحق ، لا يخرج عن السنة في حال من الأحوال . وهذا هو الصواب الذي أمر الله تعالى به ورسوله ، ولهذا لم نرد ما تقوله : المعتزلة  والرافضة  من حق بل قبلناه ، لكن بينا أن ما عابوا به مخالفيهم من الأقوال ففي أقوالهم من العيب ما هو أشد من ذلك . 
 [ ص: 343 ] فالمنتسبون إلى إثبات خلافة الأربعة وتفضيل الشيخين ، وإن كان بعضهم يقول أقوالا فاسدة فأقوال الرافضة  أفسد منها ، وكذلك المناظر للفلاسفة والمعتزلة  من المنتسبين إلى السنة  كالأشعري  وأمثاله وإن كانوا قد يقولون أقوالا باطلة ، ففي أقوال المعتزلة  والفلاسفة من الباطل ما هو أعظم منها ، فالواجب إذا كان الكلام بين طائفتين من هذه الطوائف أن يبين رجحان قول الفريق الذي هو أقرب إلى السنة بالعقل والنقل ، ولا ننصر القول الباطل المخالف للشرع والعقل أبدا ، فإن هذا محرم ومذموم ، يذم به صاحبه ، ويتولد عنه من الشر ما لا يوصف ، كما تولد من الأقوال المبتدعة مثل ذلك ، ولبسط هذه الأمور مكان آخر ، والله أعلم . 
والمقصود هنا التنبيه على وجه المناظرة العادلة التي يتكلم فيها الإنسان بعلم وعدل ، لا بجهل وظلم . وأما مناظرات الطوائف التي كل منها يخالف السنة ولو بقليل ، فأعظم ما يستفاد منها بيان إبطال بعضهم لمقالة بعض . 
 وأبو حامد الغزالي  وغيره يعتقدون أن هذه الفائدة هي المقصودة بالكلام دون غيرها ، لكن يعتقد مع ذلك أن ما ذكره هو العقيدة التي تعبد الشارع الناس باعتقادها ، وأن لها باطنا يخالف ظاهرها في بعض الأمور ، وما ذكره من الاعتقاد يوافق الشرع من وجه دون وجه ، وما ثبت عن صاحب الشرع فلا يناقض باطنه ظاهره ، والمقصود هنا أن يكون المقصود بالمناظرة بيان رجحان بعض الأقوال على بعض ] [118]  [ ص: 344 ] ولهذا كان كثير من مناظرة أهل الكلام إنما هي في بيان فساد [119] مذهب المخالفين وبيان تناقضهم ، لأنه يكون كل من القولين باطلا ، فما [120] يمكن أحدهم نصر قوله مطلقا فيبين فساد قول خصمه . وهذا يحتاج إليه إذا كان صاحب المذهب [121] حسن الظن بمذهبه ، قد بناه على مقدمات يعتقدها صحيحة ، فإذا أخذ الإنسان معه في تقرير نقيض تلك المقدمات لم يقبل ولا يبين الحق [122] ، ويطول الخصام كما طال بين أهل الكلام . 
فالوجه في ذلك أن يبين لذلك [123] رجحان مذهب غيره عليه أو فساد [124] مذهبه بتلك المقدمات وغيرها ، فإذا رأى تناقض قوله أو رجحان قول [ غيره ] على قوله [125] اشتاق حينئذ إلى معرفة الصواب وبيان جهة الخطأ ، فيبين له [126] فساد تلك المقدمات التي بنى عليها وصحة نقيضها ، ومن أي وجه وقع الغلط . 
وهكذا في مناظرة الدهري [127] واليهودي والنصراني والرافضي  [ ص: 345 ] وغيرهم [128] ، إذا سلك معهم هذا الطريق نفع في موارد النزاع فتبين لهم [129] ، وما من طائفة إلا ومعها حق وباطل ، فإذا خوطبت بين لها أن الحق الذي ندعوكم إليه [130] هو أولى بالقبول من الذي وافقناكم عليه ، ونبوة [131] محمد   - صلى الله عليه وسلم - أولى بالقبول من نبوة موسى  وعيسى   [ عليهما السلام ] [132] ، وخلافة  أبي بكر   وعمر  أولى بالصحة [133] من خلافة  علي  ، فما [ ذكر ] [134] من طريق صحيح يثبت بها نبوة هذا [ وهذا ] [135] إلا وهي تثبت [ بها ] [136] نبوة محمد   - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى ، ( 10 وما من طريق صحيح يثبت بها خلافة  علي  إلا وهي تثبت خلافة هذين بطريق الأولى 10 ) [137] ، ويبين [138] لهم أن ما يدفعون به هذا الحق يمكن أن يدفع به الحق [139] الذي معهم ، فما يقدح شيء [140] في ( * موارد النزاع إلا كان قدحا [141] في موارد الإجماع ، وما من شيء يثبت به موارد الإجماع إلا وهو يثبت به [142] موارد النزاع * ) [143] ، وما من سؤال يرد على نبوة محمد   [ صلى  [ ص: 346 ] الله عليه وسلم ] [144] وخلافة الشيخين [145] إلا ويرد على نبوة غيره [146] وخلافة غيرهما ما هو مثله أو أعظم [147] منه ، [ وما من دليل يدل على نبوة غير محمد   - صلى الله عليه وسلم - وخلافة غيرهما إلا والدليل على نبوة محمد   - صلى الله عليه وسلم - وخلافتهما أقوى منه ] [148]  . 
وأما الباطل الذي بأيدي المنازعين [149] فتبين [150] أنه يمكن معارضته بباطل مثله ، وأن الطريق الذي يبطل به ذلك الباطل يبطل به باطلهم ، فمن ادعى الإلهية في المسيح  أو  علي  أو غيرهما عورض بدعوى الإلهية في موسى  وآدم   وعمر بن الخطاب  ، فلا يذكر شبهة يظن بها الإلهية إلا ويذكر في الآخر نظيرها وأعظم منها ، فإذا تبين له فساد أحد المثلين [151] تبين له فساد الآخر ، فالحق يظهر صحته بالمثل المضروب له والباطل يظهر فساده بالمثل المضروب له ، لأن الإنسان قد لا يعلم ما في نفس محبوبه أو مكروهه من حمد وذم إلا بمثل يضرب له ، فإن حبك الشيء يعمي ويصم . 
[ والله سبحانه ضرب الأمثال للناس في كتابه لما في ذلك من البيان ، والإنسان لا يرى نفسه وأعماله إلا إذا مثلت له نفسه بأن يراها في مرآة ،  [ ص: 347 ] وتمثل له أعماله بأعمال غيره ] [152] ، ولهذا ضرب الملكان المثل لداود [ عليه السلام ]  [153] بقول أحدهما : ( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب  قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه   ) [ سورة : ص : 23 - 24 ] الآية . وضرب الأمثال مما يظهر به الحال ، وهو القياس العقلي الذي يهدي به الله من يشاء من عباده . قال [154] تعالى : ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون   ) [ سورة الروم : 27 ] ، وقال تعالى : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون   ) [ سورة العنكبوت : 43 ] . 
[155]  [ وهذا من الميزان الذي أنزله [156] الله ، كما قال تعالى : ( الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان   ) [ سورة الشورى : 17 ] ، وقال : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط   ) [ سورة الحديد : 25 ] . 
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع ، وبين أن كل قياس عقلي شمولي سواء كان على طريقة المنطق اليوناني أو غير طريقه فإنه من جنس القياس التمثيلي وأن مقصود القياسين واحد ، وكلاهما داخل في معنى الميزان الذي أنزله الله تعالى ، وأن ما يختص به أهل المنطق اليوناني بعضه باطل وبعضه تطويل لا يحتاج إليه ، بل ضرره في الغالب أكثر من نفعه كما قد بسط الكلام على المنطق اليوناني  [ ص: 348 ] وما يختص به أهل الفلسفة من الأقوال الباطلة في مجلد كبير . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					