[ ص: 514 ] ( فصل ) [1]
قال الرافضي [2] : " وأهمل حدود الله فلم يقتص من خالد بن الوليد ، ولا حده حيث [3] قتل مالك بن نويرة ، وكان مسلما [4] ، وتزوج امرأته [ في ] [5] ليلة قتله وضاجعها ، وأشار عليه [6] عمر بقتله فلم يفعل " [7] .
والجواب : أن يقال أولا : إن كان ترك قتل قاتل المعصوم مما ينكر على الأئمة ، كان هذا من أعظم حجة شيعة عثمان على علي ; فإن عثمان خير من ملء الأرض من مثل مالك بن نويرة ، وهو خليفة المسلمين ، وقد قتل مظلوما شهيدا بلا تأويل مسوغ لقتله ، وعلي لم يقتل قتلته ، وكان هذا من أعظم ما امتنعت به شيعة عثمان عن مبايعة علي ; [ ص: 515 ] فإن كان علي له عذر شرعي في ترك قتل قتلة عثمان ، فعذر أبي بكر في ترك قتل قاتل مالك بن نويرة أقوى ، وإن لم يكن لأبي بكر عذر في ذلك فعلي أولى أن لا يكون له عذر في ترك قتل قتلة عثمان .
وأما ما تفعله الرافضة من الإنكار على أبي بكر في هذه القضية الصغيرة ، وترك إنكار ما هو أعظم منها على علي ; فهذا من فرط جهلهم وتناقضهم .
وكذلك إنكارهم على عثمان كونه لم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان ، هو من هذا الباب [8] .
وإذا قال القائل : علي كان معذورا في ترك قتل قتلة عثمان ; لأن شروط الاستيفاء لم توجد : إما لعدم العلم بأعيان القتلة ، وإما لعجزه عن القوم لكونهم ذوي شوكة ، ونحو ذلك .
قيل : فشروط الاستيفاء لم توجد في قتل قاتل مالك بن نويرة ، وقتل قاتل الهرمزان ; لوجود الشبهة في ذلك . والحدود تدرأ بالشبهات .
[ ص: 516 ] وإذا قالوا : عمر أشار على أبي بكر بقتل خالد بن الوليد [9] ، وعلي أشار على عثمان بقتل عبيد الله بن عمر .
قيل : وطلحة والزبير وغيرهما أشاروا على علي بقتل قتلة عثمان ، مع أن الذين أشاروا على أبي بكر بالقود ، أقام عليهم حجة سلموا لها [10] : إما لظهور الحق معه ، وإما لكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد .
وعلي لما لم يوافق الذين أشاروا عليه بالقود ، جرى بينه وبينهم من الحروب ما قد علم ، وقتل قتلة عثمان أهون مما جرى بالجمل وصفين [11] ، فإذا كان في هذا اجتهاد سائغ ، ففي ذلك أولى .
وإن قالوا : عثمان كان مباح الدم .
قيل لهم : فلا يشك أحد في أن إباحة دم مالك بن نويرة أظهر من إباحة دم عثمان ، بل مالك بن نويرة لا يعرف أنه كان معصوم الدم [12] ، [ ص: 517 ] ولم يثبت ذلك عندنا . وأما عثمان فقد ثبت بالتواتر ونصوص الكتاب والسنة أنه كان معصوم الدم ، وبين عثمان ومالك بن نويرة من الفرق ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى .
ومن قال : إن عثمان كان مباح الدم ، لم يمكنه أن يجعل عليا معصوم الدم ، ولا الحسين ; فإن عصمة دم عثمان أظهر من عصمة دم علي والحسين ، وعثمان أبعد عن [13] موجبات القتل من علي والحسين ، وشبهة قتلة عثمان أضعف بكثير من شبهة قتلة علي والحسين ; فإن عثمان لم يقتل مسلما ، ولا قاتل أحدا على ولايته [ ولم يطلب قتال أحد على ولايته ] [14] أصلا [15] ; فإن وجب أن يقال : من قتل خلقا من المسلمين على ولايته [ إنه ] [16] معصوم الدم ، وإنه مجتهد فيما فعله ، فلأن يقال : عثمان معصوم الدم ، [ [17] ح ، ب : والولاية .
[ ص: 518 ] [18] ، وإن خالدا قتله بتأويل ، وهذا لا يبيح قتل خالد ، كما أن أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال : لا إله إلا الله . وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا أسامة ، أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟ يا أسامة ، أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟ [ يا أسامة ، [19] . أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟ ] [20] فأنكر عليه قتله ، ولم يوجب عليه قودا ولا دية ولا كفارة .
وقد روى محمد بن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس وقتادة أن هذه الآية : قوله تعالى : ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) الآية [ سورة النساء : 94 ] نزلت في شأن مرداس ، رجل من غطفان ، بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشا إلى قومه ، عليهم غالب الليثي ، ففر أصحابه ولم يفر . قال : إني مؤمن ، فصبحته الخيل ، فسلم عليهم ، فقتلوه وأخذوا غنمه ، فأنزل الله هذه الآية ، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برد أمواله إلى أهله وبديته إليهم ، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك [21] .
وكذلك خالد بن الوليد قد قتل بني جذيمة متأولا ، ورفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه وقال : " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد " [22] ، ومع هذا فلم يقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه كان متأولا .
فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتله مع قتله [23] غير واحد من [ ص: 519 ] المسلمين من بني جذيمة للتأويل [24] ، فلأن لا يقتله أبو بكر لقتله مالك بن نويرة بطريق الأولى والأحرى .
وقد تقدم ما ذكره هذا الرافضي من فعل خالد ببني جذيمة ، وهو يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتله ، فكيف لم يجعل ذلك حجة لأبي بكر في أن لا يقتله ؟ ! لكن من كان متبعا لهواه أعماه عن اتباع الهدى .
وقوله : إن عمر أشار بقتله .
فيقال : غاية هذا أن تكون مسألة اجتهاد ، كان رأي أبي بكر فيها أن لا يقتل خالدا ، وكان رأي عمر فيها قتله ، وليس عمر بأعلم من أبي بكر : لا عند السنة [25] ، ولا عند الشيعة ، ولا يجب على أبي بكر ترك رأيه لرأي عمر ، ولم يظهر بدليل شرعي أن قول عمر هو الراجح ، فكيف يجوز أن يجعل مثل هذا عيبا لأبي بكر إلا من هو من أقل الناس علما ودينا ؟
وليس عندنا أخبار صحيحة ثابتة بأن الأمر جرى على وجه يوجب قتل خالد .
وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله ، فهذا مما لم يعرف ثبوته ، ولو ثبت لكان هناك تأويل يمنع الرجم ، والفقهاء مختلفون في عدة الوفاة : هل تجب للكافر ؟ على قولين . وكذلك تنازعوا : هل يجب على الذمية عدة وفاة ؟ على قولين مشهورين للمسلمين [26] بخلاف عدة الطلاق ; فإن تلك سببها [27] الوطء ، فلا بد من براءة الرحم . وأما عدة الوفاة فتجب [ ص: 520 ] بمجرد العقد ، فإذا مات قبل الدخول بها فهل تعتد من الكافر أم لا ؟ فيه نزاع . وكذلك إن كان دخل بها ، وقد حاضت بعد الدخول حيضة .
هذا إذا كان الكافر أصليا ، وأما المرتد إذا قتل ، أو مات على ردته ، ففي مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ليس عليها عدة وفاة ، بل عدة فرقة بائنة ; لأن النكاح بطل بردة الزوج ، وهذه الفرقة ليست طلاقا عند الشافعي وأحمد ، وهي طلاق عند مالك وأبي حنيفة ; ولهذا لم يوجبوا عليها عدة وفاة ، بل عدة فرقة بائنة ، فإن كان لم يدخل بها فلا عدة عليها ، كما ليس عليها عدة من الطلاق .
ومعلوم أن خالدا قتل مالك بن نويرة ; لأنه رآه مرتدا ، فإذا كان [28] لم يدخل بامرأته فلا عدة عليها عند عامة العلماء [29] ، وإن كان قد دخل بها فإنه يجب عليها استبراء بحيضة لا بعدة كاملة في أحد قوليهم ، وفي الآخر بثلاث حيض ، وإن كان كافرا أصليا فليس على امرأته عدة وفاة في أحد قوليهم . وإذا كان الواجب استبراء بحيضة فقد تكون حاضت . ومن الفقهاء من يجعل بعض الحيضة استبراء ، فإذا كانت في آخر الحيض جعل ذلك استبراء لدلالته على براءة الرحم .
وبالجملة فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم ، وهذا مما حرمه الله ورسوله .


