ثم يذكرون من عجزه عن مقاومة أبي بكر - رضي الله عنه - مع ضعفه عندهم بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يناقض ذلك ; فإن [ ص: 144 ] أبا بكر - رضي الله عنه - لم يكن له بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - مال يستعطف به الناس ، ولا كان له قبيلة عظيمة ينصرونه ، ولا موال ، ولا دعا الناس إلى بيعته ، لا برغبة ولا برهبة . وكان علي - رضي الله عنه - على دفعه أقدر منه على دفع الكفار الذين حاربوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بكثير ، فلو كان [1] . هو الذي دفع الكفار ، ولو كان [2] . مريدا لدفع أبي بكر - رضي الله عنه - لكان على ذلك أقدر ، لكنهم يجمعون بين المتناقضين .
وكذلك في حربه لمعاوية قد قهر وعسكره أعظم ، وتحت طاعته من هم أفضل وأكثر من الذين تحت طاعة معاوية ، وهو - رضي الله عنه - لا ريب أنه كان يريد أن يقهر معاوية وعسكره ، فلو كان هو الذي نصر النبي - صلى الله عليه وسلم - مع كثرة الكفار وضعف المسلمين وقلتهم ; لكان مع كثرة عسكره على عسكر معاوية أقدر على قهر معاوية وجيشه منه على قهر الكفار الذين قاتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف يجمع بين تلك الشجاعة والقوة وبين هذا العجز والضعف ، إلا من هو جاهل متناقض ؟ !
بل هذا يدل على أن النصر كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن الله أيده بنصره وبالمؤمنين كلهم ، وعلي وغيره من المؤمنين الذين أيده الله بهم ، وكان تأييده بأبي بكر وعمر أعظم من تأييده بغيرهما من وجوه كثيرة .
[ ص: 145 ] ومما يبين أن عليا لم يكن يعلم المستقبل أنه ندم على أشياء مما فعلها ، وكان يقول : لقد عجزت عجزة لا أعتذر سوف أكيس بعدها وأستمر وأجمع الرأي الشتيت المنتشر .
وكان يقول ليالي صفين : يا حسن يا حسن ، ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ هذا ! لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر ، إن كان برا إن أجره لعظيم ، وإن كان إثما إن خطره ليسير . وهذا رواه المصنفون .
وتواتر عنه أنه كان يتضجر ويتململ من اختلاف رعيته عليه ، وأنه ما كان يظن أن الأمر يبلغ ما بلغ .
وكان الحسن رأيه ترك القتال . وقد جاء النص الصحيح بتصويب الحسن .
وفي البخاري عن أبي بكر [3] - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن ابني هذا سيد ، وإن الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " [4] . فمدح الحسن على الإصلاح بين الطائفتين .
وسائر الأحاديث الصحيحة تدل على أن القعود عن القتال والإمساك عن الفتنة كان أحب إلى الله ورسوله . وهذا قول أئمة السنة وأكثر أئمة الإسلام . وهذا ظاهر في الاعتبار ; فإن محبة الله ورسوله للعمل بظهور ثمرته ، فما كان أنفع للمسلمين في دينهم ودنياهم كان أحب إلى الله [ ص: 146 ] ورسوله . وقد دل الواقع على أن رأي الحسن كان أنفع للمسلمين ; لما ظهر من العاقبة في هذا و [ في ] هذا [5] . .
وفي صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول للحسن وأسامة : " اللهم إني أحبهما فأحبهما ، وأحب من يحبهما " [6] . .
وكلاهما كان يكره الدخول في القتال . أما أسامة فإنه اعتزل القتال ، فطلبه علي ومعاوية ، فلم يقاتل مع واحد من هؤلاء . كما اعتزل أكثر فضلاء الصحابة - رضي الله عنهم - مثل سعد بن أبي وقاص ، وابن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وزيد بن ثابت ، وأبي هريرة ، وعمران بن حصين ، وأبي بكرة ، وغيرهم .
وكان ما فعله الحسن أفضل عند الله مما فعله الحسين ; فإنه وأخاه سيدا شباب أهل الجنة ، فقتل الحسين شهيدا مظلوما .
وصار الناس في قتله ثلاثة أحزاب :
حزب يرون أنه قتل بحق ، ويحتجون بما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق بين جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان " [7] . . قالوا : وهو جاء والناس على رجل واحد ، فأراد أن يفرق جماعتهم .
وحزب يرون أن الذين قاتلوه كفار ، بل يرون أن من لم يعتقد إمامته كافر .
[ ص: 147 ] والحزب الثالث - وهم أهل السنة والجماعة - يرون أنه قتل مظلوما شهيدا ، والحديث المذكور لا يتناوله بوجه ، فإنه - رضي الله عنه - لما بعث ابن عمه عقيلا إلى الكوفة فبلغه أنه قتل بعد أن بايعه طائفة ، فطلب [8] . الرجوع إلى بلده ، فخرج إليه السرية التي قتلته ، فطلب منهم أن يذهبوا به إلى يزيد ، أو يتركوه يرجع إلى مدينته ، أو يتركوه يذهب إلى الثغر للجهاد ، فامتنعوا من هذا وهذا ، وطلبوا أن يستأسر لهم ليأخذوه أسيرا .
ومعلوم باتفاق المسلمين أن هذا لم يكن واجبا عليه ، وأنه كان يجب تمكينه مما طلب ، فقاتلوه ظالمين له ، ولم يكن حينئذ مريدا لتفريق الجماعة ، ولا طالبا للخلافة ، ولا قاتل على طلب خلافة ، بل قاتل دفعا عن نفسه لمن صال عليه وطلب أسره .
وظهر بطلان قول الحزب الأول .
وأما الحزب الثاني فبطلان قوله يعرف من وجوه كثيرة : من أظهرها أن عليا لم يكفر أحدا ممن قاتله ، حتى ولا الخوارج ، ولا سبى ذرية أحد منهم ، ولا غنم ماله ، ولا حكم في أحد ممن قاتله بحكم المرتدين ، كما حكم أبو بكر وسائر الصحابة في بني حنيفة وأمثالهم من المرتدين ، بل علي كان يترضى [9] . عن طلحة والزبير وغيرهما ممن قاتله ، ويحكم فيهم وفي أصحاب معاوية ممن قاتله بحكم المسلمين .
وقد ثبت بالنقل الصحيح أن مناديه نادى يوم الجمل : " لا يتبع مدبر ، [ ص: 148 ] ولا يجهز على جريح ، ولا يغنم مال " [10] . وهذا مما أنكرته الخوارج عليه ، حتى ناظرهم ابن عباس - رضي الله عنه - في ذلك ، كما ذكر ذلك في موضعه .
واستفاضت الآثار [11] . عنه أنه كان يقول عن قتلى عسكر معاوية : إنهم جميعا مسلمون ، ليسوا كفارا ولا منافقين ، كما قد ذكر في غير هذا الموضع . وكذلك عمار وغيره من الصحابة .
وكانت هذه الأحزاب الثلاثة بالعراق ، [ وكان بالعراق أيضا ] [12] . طائفة ناصبة من شيعة عثمان تبغض عليا والحسين ، وطائفة [13] . من شيعة علي تبغض عثمان وأقاربه .
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أسماء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " سيكون في ثقيف كذاب ومبير " [14] . . فكان الكذاب الذي فيها هو المختار بن عبيد ، وكان الحجاج هو المبير ، وكان هذا يتشيع لعثمان ويبغض شيعة علي ، وكان الكذاب يتشيع لعلي ، حتى قاتل عبيد الله بن زياد وقتله ، ثم ادعى أن جبريل يأتيه ; فظهر كذبه .
وانقسم الناس بسبب هذا يوم [15] . عاشوراء - الذي قتل فيه الحسين - إلى قسمين : فالشيعة اتخذته يوم مأتم وحزن يفعل فيه من المنكرات ما [ ص: 149 ] لا يفعله إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم ، وقوم اتخذوه [16] بمنزلة العيد ، فصاروا يوسعون فيه فيه : [17] . النفقات والأطعمة واللباس ، ورووا فيه أحاديث موضوعة ، كقوله : " من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته " وهذا الحديث كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم [18] . قال حرب الكرماني : سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث ، فقال : لا أصل له . والمعروف عند أهل الحديث أنه يرويه سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه أنه قال : بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته . قال ابن عيينة : جربناه من ستين سنة فوجدناه صحيحا .
قلت : ومحمد بن المنتشر هذا من فضلاء الكوفيين ، لكن لم يكن يذكر ممن سمعه ولا عمن بلغه [19] . . ولا ريب أن هذا أظهره بعض المتعصبين على الحسين ، ليتخذ يوم قتله عيدا ، فشاع هذا عند الجهال المنتسبين إلى السنة ، حتى روي في حديث : أن يوم عاشوراء جرى كذا وجرى كذا ، حتى جعلوا أكثر حوادث الأنبياء كانت يوم عاشوراء ، مثل مجيء قميص يوسف إلى يعقوب ورد بصره ، وعافية أيوب ، وفداء الذبيح ، وأمثال هذا . وهذا الحديث كذب موضوع ، وقد ذكره ابن الجوزي في " الموضوعات " [20] . وإن كان قد رواه هو في كتاب " النور في [ ص: 150 ] فضائل الأيام والشهور " [21] . وذكر عن ابن ناصر شيخه أنه قال : حديث صحيح ، وإسناده على شرط الصحيح ، فالصواب ما ذكره في " الموضوعات " وهو آخر الأمرين منه . وابن ناصر راج عليه ظهور حال رجاله ، وإلا فالحديث مخالف للشرع والعقل ، لم يروه أحد من أهل العلم المعروفين في شيء من الكتب ، وإنما دلس على بعض الشيوخ المتأخرين .
كما جرى مثل ذلك في أحاديث [22] . أخر ، حتى في أحاديث نسبت إلى مسند أحمد ، وليست منه ، مثل حديث رواه عبد القادر بن يوسف ، عن ابن المذهب ، عن القطيعي ، عن عبد الله ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المثنى [23] . ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " القرآن كلام الله غير مخلوق ، منه بدأ ، وإليه يعود " وهذا القول صحيح متواتر عن السلف أنهم قالوا ذلك ، لكن رواية هذا اللفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذب ، وعزوه إلى المسند لأحمد كذب ظاهر [24] . ; فإن مسنده موجود وليس هذا فيه .
[ ص: 151 ] وأحمد إمام أهل السنة في زمن المحنة ، وقد جرى له في مسألة القرآن ما اشتهر في الآفاق ، وكان يحتج لأن [25] . القرآن كلام الله غير مخلوق بحجج كثيرة معروفة عنه ، ولم يذكر هذا الحديث قط ، ولا احتج به ، فكيف يكون هذا الحديث عنده ولا يحتج به ؟ ! وهذا الحديث إنما عرف عن هذا الشيخ ، وكان بعض من قرأ عليه دسه في جزء فقرأه عليه مع غيره ، فراج ذلك على من لم يكن له معرفة .
وكذلك حديث عاشوراء ، والذي صح في فضله هو صومه ، وأنه يكفر سنة ، وأن الله نجى فيه موسى من الغرق ، وقد بسطنا الكلام عليه في موضع آخر ، وبينا أن كل ما يفعل فيه - سوى الصوم - بدعة مكروهة ، لم يستحبها [26] . أحد من الأئمة ، مثل الاكتحال ، والخضاب ، وطبخ الحبوب ، وأكل لحم الأضحية ، والتوسيع في النفقة ، وغير ذلك ، وأصل هذا من ابتداع قتلة الحسين ونحوهم [27] .
وأقبح من ذلك وأعظم ما تفعله الرافضة من اتخاذه مأتما يقرأ فيه المصرع ، وينشد فيه قصائد النياحة ، ويعطشون فيه أنفسهم ، ويلطمون فيه [28] . الخدود ، ويشقون الجيوب ، ويدعون فيه بدعوى الجاهلية .
[ ص: 152 ] وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية " [29] . .
وهذا مع حدثان العهد بالمصيبة ، فكيف [30] . إذا كانت بعد ستمائة ونحو سبعين سنة ؟ وقد قتل من هو أفضل من الحسين ، ولم يجعل المسلمون ذلك اليوم مأتما .
وفي مسند أحمد عن [31] فاطمة بنت الحسين - وكانت قد شهدت قتله - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما من مسلم يصاب بمصيبة ، فيذكر مصيبته وإن قدمت ، فيحدث لها استرجاعا ، إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها " [32] .
فهذا يبين أن السنة في المصيبة إذا ذكرت ، وإن تقادم عهدها ، أن يسترجع [33] . ، كما جاء بذلك الكتاب والسنة .
قال تعالى : ( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) [ سورة البقرة : 155 - 157 ] .
وأقبح من ذلك نتف النعجة تشبيها لها بعائشة ، والطعن في الجبس الذي في جوفه سمن تشبيها له بعمر ، وقول القائل : يا ثارات أبي لؤلؤة ! إلى غير ذلك من منكرات الرافضة ، فإنه يطول وصفها .
[ ص: 153 ] والمقصود هنا أن ما أحدثوه من البدع فهو منكر ، وما أحدثه من يقابل بالبدعة البدعة ، وينسب إلى السنة ، هو أيضا منكر مبتدع . والسنة ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي برية من كل بدعة ، فما يفعل يوم عاشوراء من اتخاذه عيدا بدعة أصلها من بدع النواصب ، وما يفعل من اتخاذه مأتما بدعة أشنع منها ، وهي من البدع المعروفة في الروافض ، وقد بسطنا هذه الأمور س ، ب . . . الأمور وبالله المستعان . .


