[ ص: 515 ] اعلم أنا إذا بنينا على أن البدع منقسمة إلى الأحكام الخمسة فلا إشكال في اختلاف رتبتها ، لأن النهي من جهة انقسامه إلى نهي الكراهية ، ونهي التحريم يستلزم أن أحدهما أشد في النهي من الآخر ، فإذا انضم إليهما قسم الإباحة ظهر الاختلاف في الأقسام ، فإذا اجتمع إليها قسم الندب وقسم الوجوب كان الاختلاف فيها أوضح ـ وقد مر من أمثلتها أشياء كثيرة ـ لكنا لا نبسط القول في هذا التقسيم ولا بيان رتبه بالأشد والأضعف ، لأنه إما أن يكون حقيقيا فالكلام فيه عناء ، وإن كان ( غير ) حقيقي فقد تقدم أنه غير صحيح ، فلا فائدة في التفريع على ما لا يصح ، وإن عرض في ذلك نظر أو تفريع فإنما يذكر بحكم التبع بحول ( الله ) .  
فإذا خرج عن هذا التقسيم ثلاثة أقسام : قسم الوجوب ، وقسم الندب ، وقسم الإباحة ، انحصر النظر فيما بقي وهو الذي ثبت من التقسيم ، غير أنه ورد النهي عنها على وجه واحد ، ونسبته إلى الضلالة واحدة ، في قوله :  
إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار  وهذا عام في كل بدعة ،      [ ص: 516 ] فيقع السؤال : هل لها حكم واحد أم لا ؟ فنقول : ثبت في الأصول أن الأحكام الشرعية خمسة ، نخرج عنها الثلاثة ، فيبقى حكم الكراهية وحكم التحريم ، فاقتضى النظر انقسام البدع إلى القسمين ، فمنها بدعة محرمة ، ومنها بدعة مكروهة ، وذلك أنها داخلة تحت جنس المنهيات وهي لا تعدو الكراهة والتحريم ، فالبدع كذلك ، هذا وجه .  
ووجه ثان : أن البدع إذا تؤمل معقولها وجدت رتبتها متفاوتة ، فمنها ما هو كفر صراح ، كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن ، كقوله تعالى :  وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا   ، وقوله تعالى :  وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء   وقوله تعالى :  ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام   ، وكذلك بدعة المنافقين حيث اتخذوا الدين ذريعة لحفظ النفس والمال ، وما أشبه ذلك مما يشك أنه كفر صراح .  
ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر أو يختلف ؛ هل هي كفر أم لا ؟ كبدعة  الخوارج   والقدرية   والمرجئة   ومن أشبههم من الفرق الضالة .  
- ومنها ما هو معصية ، ويتفق عليها ، وليست بكفر كبدعة التبتل ،      [ ص: 517 ] والصيام قائما في الشمس ، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع .  
- ومنها ، ما هو مكروه كما يقول  مالك  في إتباع رمضان بست من شوال ، وقراءة القرآن بالإدارة ، والاجتماع للدعاء عشية عرفة ، وذكر السلاطين في خطبة الجمعة ـ على ما قاله  ابن عبد السلام الشافعي  ـ وما أشبه ذلك .  
فمعلوم أن هذه البدع ليست في رتبة واحدة فلا يصح مع هذا أن يقال : إنها على حكم واحد ، هو الكراهة فقط ، أو التحريم فقط .  
ووجه ثالث : أن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر ، ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات ، فإن كانت في الضروريات فهي أعظم الكبائر ، وإن وقعت في التحسينات فهي أدنى رتبة بلا إشكال ، وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين .  
ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مكمل ، ولا يمكن في المكمل أن يكون في رتبة المكمل ، فإن ( المكمل مع المكمل ) في نسبة الوسيلة مع المقصد ، ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد ، فقد ظهر تفاوت رتب المعاصي والمخالفات .  
وأيضا ، فإن من الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه :  
فليست مرتبة النفس كمرتبة الدين ، وليس تستصغر حرمة النفس في جنب حرمة الدين ، فيبيح الكفر الدم ، والمحافظة على الدين مبيح لتعريض النفس للقتل والإتلاف ، في الأمر بمجاهدة الكفار والمارقين عن الدين .  
 [ ص: 518 ] ومرتبة العقل والمال ليست كمرتبة النفس ، ألا ترى أن قتل النفس مبيح للقصاص ؟ فالقتل بخلاف العقل والمال ، وكذلك سائر ما بقي .  
وإذا نظرت في مرتبة النفس تباينت المراتب ، فليس قطع العضو كالذبح ، ولا الخدش كقطع العضو وهذا كله محل بيانه الأصول .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					