الفصل الثاني : حالتهم بالنسبة للسحر  
فإن قلت : فقد  جاءت الأخبار الصحيحة أنه - صلى الله عليه وسلم - سحر   كما حدثنا الشيخ  أبو محمد العتابي  بقراءتي عليه ، قال : نا  حاتم بن محمد  ، نا  أبو الحسن علي بن خلف  ، نا  محمد بن أحمد  ، نا  محمد بن يوسف  ، نا   البخاري  ، نا  عبيد بن إسماعيل  ، نا  أبو أسامة  ، عن  هاشم بن عروة  ، عن أبيه ، عن  عائشة     - رضي الله عنها - ، قالت :  سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء ، وما فعله .  
وفي رواية أخرى : حتى كان يخيل إليه أنه كان يأتي النساء ، ولا يأتيهن     . . الحديث .  
وإذا كان هذا من التباس الأمر على المسحور فكيف حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ؟ ، وكيف جاز عليه ، وهو      [ ص: 517 ] معصوم ؟ .  
فاعلم وفقنا الله وإياك أن هذا الحديث صحيح متفق عليه ، وقد طعنت فيه الملحدة ، وتدرعت به لسخف عقولها ، وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك في الشرع ، وقد نزه الله الشرع والنبي عما يدخل في أمره لبسا ، وإنما السحر مرض من الأمراض ، وعارض من العلل ، يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا ينكر ، ولا يقدح في نبوته .  
وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ، ولا يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه أو شريعته ، أو يقدح في صدقه ، لقيام الدليل ، والإجماع على عصمته من هذا وإنما هذا ، فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها ، ولا فضل من أجلها ، وهو فيها للآفات كسائر البشر ، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ، ثم ينجلي عنه ، كما كان .  
وأيضا فقد فسر هذا الفصل الحديث الآخر من قوله :  حتى يخيل إليه أنه يأتي أهله ، ولا يأتيهن     .  
وقد قال سفيان : وهذا أشد ما يكون من السحر ، ولم يأت في خبر منها أنه نقل عنه في ذلك قول بخلاف ما كان أخبر أنه فعله ، ولم يفعله ، وإنما كانت خواطر وتخيلات .  
وقد قيل : إن المراد بالحديث أنه : كان يتخيل الشيء أنه فعله ، وما فعله ، لكنه تخييل لا يعتقد صحته ، فتكون اعتقاداته كلها على السداد ، وأقواله على الصحة .  
هذا ما وقفت عليه لأئمتنا من الأجوبة عن هذا الحديث مع ما أوضحناه من معنى كلامهم ، وزدناه بيانا من تلويحاتهم . وكل وجه منها مقنع ، لكنه قد ظهر لي في الحديث تأويل أجلى وأبعد من مطاعن ذوي الأضاليل يستفاد من نفس الحديث ، وهو أن  عبد الرزاق  قد روى هذا الحديث عن   ابن المسيب  ،   وعروة بن الزبير  ، وقال فيه عنهما :  سحر  يهود بني زريق   رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجعلوه في بئر حتى كاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينكر بصره ، ثم دله الله على ما صنعوا فاستخرجه من البئر     .  
وروي نحوه عن   الواقدي  ، وعن  عبد الرحمن بن كعب  ،  وعمر بن الحكم     .  
وذكر عن   عطاء الخراساني  ، عن   يحيى بن يعمر     :      [ ص: 518 ] حبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن  عائشة  سنة ، فبينا هو نائم أتاه ملكان فقعد أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجليه     . . . الحديث .  
قال  عبد الرزاق     :  حبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن  عائشة  خاصة سنة حتى أنكر بصره     .  
وروى  محمد بن سعد  ، عن   ابن عباس     :  مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فحبس عن النساء والطعام والشراب ، فهبط عليه ملكان     . . . وذكر القصة .  
فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات أن السحر إنما تسلط على ظاهره ، وجوارحه ، لا على قلبه ، واعتقاده ، وعقله ، وأنه إنما أثر في بصره ، وحبسه عن وطء نسائه وطعامه ، وأضعف جسمه ، وأمرضه ، ويكون معنى قوله :  يخيل إليه أنه يأتي أهله ، ولا يأتيهن  ، أي يظهر له من نشاطه ، ومتقدم عادته القدرة على النساء ، فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر ، فلم يقدر على إتيانهن ، كما يعتري من أخذ ، واعترض .  
ولعله لمثل هذا أشار  سفيان  بقوله : وهذا أشد ما يكون من السحر . ويكون قول  عائشة  في الرواية الأخرى : إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء ، وما فعله ، من باب ما اختل من بصره ، كما ذكر في الحديث ، فيظن أنه رأى شخصا من بعض أزواجه ، أو شاهد فعلا من غيره ، ولم يكن على ما يخيل إليه لما أصابه في بصره ، وضعف نظره ، لا لشيء طرأ عليه في ميزه .  
وإذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من إصابة السحر له ، وتأثيره فيه ما يدخل لبسا ، ولا يجد به الملحد المعترض أنسا .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					