قال : وهو على ثلاث درجات . الدرجة الأولى : تجنب القبائح لصون النفس . وتوفير الحسنات . وصيانة الإيمان .  
هذه ثلاث فوائد من  فوائد تجنب القبائح      .  
إحداها : صون النفس . وهو حفظها وحمايتها عما يشينها ، ويعيبها ويزري بها عند الله عز وجل وملائكته ، وعباده المؤمنين وسائر خلقه . فإن من كرمت عليه نفسه وكبرت عنده صانها وحماها ، وزكاها وعلاها ، ووضعها في أعلى المحال . وزاحم بها أهل العزائم والكمالات . ومن هانت عليه نفسه وصغرت عنده ألقاها في الرذائل . وأطلق شناقها ، وحل زمامها وأرخاه . ودساها ولم يصنها عن قبيح . فأقل ما في تجنب القبائح : صون النفس .  
وأما  توفير الحسنات   فمن وجهين :  
أحدهما : توفير زمانه على اكتساب الحسنات . فإذا اشتغل بالقبائح نقصت عليه الحسنات التي كان مستعدا لتحصيلها .  
والثاني : توفير الحسنات المفعولة عن نقصانها بموازنة السيئات وحبوطها ، كما تقدم في منزلة التوبة أن السيئات قد تحبط الحسنات ، وقد تستغرقها بالكلية أو تنقصها . فلا بد أن تضعفها قطعا ، فتجنبها يوفر ديوان الحسنات . وذلك بمنزلة من له مال حاصل . فإذا استدان عليه ، فإما أن يستغرقه الدين أو يكثره أو ينقصه ، فهكذا الحسنات والسيئات سواء .  
 [ ص: 27 ] وأما صيانة الإيمان فإن  الإيمان عند جميع أهل السنة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية      . وقد حكاه   الشافعي  وغيره عن الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم . وإضعاف المعاصي للإيمان أمر معلوم بالذوق والوجود . فإن العبد - كما جاء في الحديث -  إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء . فإن تاب واستغفر صقل قلبه      . وإن عاد فأذنب نكت فيه نكتة أخرى ، حتى تعلو قلبه . وذلك الران الذي قال الله تعالى : (  كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون      )     . فالقبائح تسود القلب ، وتطفئ نوره .  والإيمان هو نور في القلب      . والقبائح تذهب به أو تقلله قطعا . فالحسنات تزيد نور القلب .  والسيئات تطفئ نور القلب      . وقد أخبر الله عز وجل أن كسب القلوب سبب للران الذي يعلوها . وأخبر أنه أركس المنافقين بما كسبوا . فقال : (  والله أركسهم بما كسبوا      ) . وأخبر أن نقض الميثاق الذي أخذه على عباده سبب لتقسية القلب . فقال : (  فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به      ) . فجعل ذنب النقض موجبا لهذه الآثار من تقسية القلب ، واللعنة ، وتحريف الكلم ، ونسيان العلم .  
فالمعاصي للإيمان كالمرض والحمى للقوة ، سواء بسواء . ولذلك قال السلف :  المعاصي بريد الكفر ،   كما أن الحمى بريد الموت .  
فإيمان صاحب القبائح كقوة المريض على حسب قوة المرض وضعفه .  
وهذه الأمور الثلاثة - وهي صون النفس ، وتوفير الحسنات ، وصيانة الإيمان - هي أرفع من باعث العامة على الورع ؛ لأن صاحبها أرفع همة ، لأنه عامل على تزكية نفسه وصونها ، وتأهيلها للوصول إلى ربها . فهو يصونها عما يشينها عنده . ويحجبها عنه . ويصون حسناته عما يسقطها ويضعها ؛ لأنه يسير بها إلى ربه . ويطلب بها رضاه . ويصون إيمانه بربه من حبه له ، وتوحيده ، ومعرفته به ، ومراقبته إياه عما يطفئ نوره . ويذهب بهجته ، ويوهن قوته .  
قال الشيخ :  
" وهذه الثلاث الصفات : هي في الدرجة الأولى من  ورع المريدين      .  
 [ ص: 28 ] يعني أن للمريدين درجتين أخريين من الورع فوق هذه . ثم ذكرهما فقال :  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					