فصل 
في هديه صلى الله عليه وسلم في حجه وعمره  
اعتمر صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة أربع عمر كلهن في ذي القعدة . 
الأولى : عمرة الحديبية ، وهي أولاهن سنة ست ، فصده المشركون عن البيت ، فنحر البدن حيث صد بالحديبية وحلق هو وأصحابه رءوسهم ، وحلوا من إحرامهم ، ورجع من عامه إلى المدينة   . 
الثانية : عمرة القضية في العام المقبل ، دخل مكة  فأقام بها ثلاثا ، ثم خرج بعد إكمال عمرته ، واختلف : هل كانت قضاء للعمرة التي صد عنها في العام الماضي ، أم عمرة مستأنفة ؟ على قولين للعلماء : وهما روايتان عن  الإمام أحمد  ، إحداهما : أنها قضاء وهو مذهب  أبي حنيفة  رحمه الله . والثانية : ليست بقضاء ، وهو قول مالك  رحمه الله ، والذين قالوا : كانت قضاء ، احتجوا بأنها سميت عمرة القضاء ، وهذا الاسم تابع للحكم . وقال آخرون : القضاء هنا من المقاضاة ، لأنه قاضى أهل مكة  عليها ، لا أنه من قضى قضاء . قالوا : ولهذا سميت عمرة القضية . قالوا : والذين صدوا عن البيت ، كانوا ألفا وأربعمائة ، وهؤلاء كلهم لم يكونوا معه في عمرة القضية ، ولو كانت قضاء لم يتخلف منهم أحد ، وهذا القول أصح ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر من كان معه بالقضاء . 
 [ ص: 87 ] الثالثة : عمرته التي قرنها مع حجته ، فإنه كان قارنا لبضعة عشر دليلا ، سنذكرها عن قريب إن شاء الله . 
الرابعة : عمرته من الجعرانة  ، لما خرج إلى حنين  ، ثم رجع إلى مكة  ، فاعتمر من الجعرانة  داخلا إليها . 
ففي " الصحيحين " : عن  أنس بن مالك  قال : ( اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر ، كلهن في ذي القعدة ، إلا التي كانت مع حجته : عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة ، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة ، وعمرة من الجعرانة  حيث قسم غنائم حنين  في ذي القعدة ، وعمرة مع حجته  ) . 
ولم يناقض هذا ما في " الصحيحين " عن  البراء بن عازب  قال : ( اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين  ) ، لأنه أراد العمرة المفردة المستقلة ولا ريب أنهما اثنتان ، فإن عمرة القران لم تكن مستقلة وعمرة الحديبية صد عنها ، وحيل بينه  [ ص: 88 ] وبين إتمامها ، ولذلك قال  ابن عباس   : ( اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر . عمرة الحديبية ، وعمرة القضاء من قابل ، والثالثة من الجعرانة  ، والرابعة مع حجته  ) ذكره  الإمام أحمد   . 
ولا تناقض بين حديث أنس   : أنهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته ، وبين قول  عائشة  ،  وابن عباس   : لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة ؛ لأن مبدأ عمرة القران كان في ذي القعدة ، ونهايتها كان في ذي الحجة مع انقضاء الحج ،  فعائشة   وابن عباس  أخبرا عن ابتدائها ، وأنس  أخبر عن انقضائها . 
فأما قول  عبد الله بن عمر   : إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعا ، إحداهن في رجب ، فوهم منه رضي الله عنه . قالت  عائشة  لما بلغها ذلك عنه : يرحم الله أبا عبد الرحمن  ، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة قط إلا وهو شاهد ، وما اعتمر في رجب قط  . 
وأما ما رواه  الدارقطني  ، ( عن  عائشة  قالت : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت ، وقصر وأتممت ، فقلت بأبي وأمي ، أفطرت وصمت ، وقصرت وأتممت ، فقال : أحسنت يا  عائشة   ) فهذا الحديث غلط ،  [ ص: 89 ] فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط ، وعمره مضبوطة العدد والزمان ، ونحن نقول : يرحم الله أم المؤمنين ، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان قط ، وقد قالت  عائشة  رضي الله عنها : لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة ، رواه  ابن ماجه  وغيره . 
ولا خلاف أن عمره لم تزد على أربع ، فلو كان قد اعتمر في رجب لكانت خمسا ، ولو كان قد اعتمر في رمضان لكانت ستا ، إلا أن يقال : بعضهن في رجب ، وبعضهن في رمضان ، وبعضهن في ذي القعدة ، وهذا لم يقع ، وإنما الواقع اعتماره في ذي القعدة كما قال أنس  رضي الله عنه ،  وابن عباس  رضي الله عنه ،  وعائشة  رضي الله عنها . وقد روى أبو داود  في " سننه " عن  عائشة   : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في شوال  ) . وهذا إذا كان محفوظا فلعله في عمرة الجعرانة  حين خرج في شوال ، ولكن إنما أحرم بها في ذي القعدة . 
ولم يكن في عمره عمرة واحدة خارجا من مكة  كما يفعل كثير من الناس اليوم ، وإنما كانت عمره كلها داخلا إلى مكة  ، وقد أقام بعد الوحي بمكة  ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أنه اعتمر خارجا من مكة  في تلك المدة أصلا . 
فالعمرة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها ، هي عمرة الداخل إلى مكة  ، لا عمرة من كان بها فيخرج إلى الحل ليعتمر ، ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا  عائشة  وحدها بين سائر من كان معه ؛ لأنها كانت قد أهلت بالعمرة فحاضت ،  [ ص: 90 ] فأمرها ، فأدخلت الحج على العمرة وصارت قارنة ، وأخبرها أن طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة  قد وقع عن حجتها وعمرتها ، فوجدت في نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وعمرة مستقلين فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يقرن ، وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها ، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم  تطييبا لقلبها ، ولم يعتمر هو من التنعيم  في تلك الحجة ولا أحد ممن كان معه ، وسيأتي مزيد تقرير لهذا وبسط له عن قريب إن شاء الله تعالى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					