أما قوله تعالى : ( آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين    ) ففيه سؤالات : 
السؤال الأول : من القائل له : ( آلآن وقد عصيت قبل    ) . 
الجواب : الأخبار دالة على أن قائل هذا القول هو جبريل  ، وإنما ذكر قوله : ( وكنت من المفسدين    ) في مقابلة قوله : ( وأنا من المسلمين    ) ومن الناس من قال : إن قائل هذا القول هو الله تعالى ؛ لأنه ذكر بعده ( فاليوم ننجيك ببدنك    ) إلى قوله : ( وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون    ) وهذا الكلام ليس إلا كلام الله تعالى . 
السؤال الثاني : ظاهر اللفظ يدل على أنه إنما لم تقبل توبته للمعصية المتقدمة والفساد السابق ، وصحة هذا التعليل لا تمنع من قبول التوبة . 
والجواب : مذهب أصحابنا أن قبول التوبة غير واجب عقلا ، وأحد دلائلهم على صحة ذلك هذه الآية . وأيضا فالتعليل ما وقع بمجرد المعصية السابقة ، بل بتلك المعصية مع كونه من المفسدين . 
السؤال الثالث : هل يصح أن جبريل    - عليه السلام - أخذ يملأ فمه من الطين لئلا يتوب غضبا عليه ؟  
والجواب : الأقرب أنه لا يصح ; لأن في تلك الحالة إما أن يقال التكليف كان ثابتا أو ما كان ثابتا ، فإن كان ثابتا لم يجز على جبريل    - عليه السلام - أن يمنعه من التوبة ، بل يجب عليه أن يعينه على التوبة وعلى كل طاعة ; لقوله تعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان    ) [ المائدة : 2 ] وأيضا فلو منعه بما ذكروه لكانت التوبة ممكنة ; لأن الأخرس قد يتوب بأن يندم بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح ، وحينئذ لا يبقى لما فعله جبريل    - عليه السلام - فائدة ، وأيضا لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر ، والرضا بالكفر كفر ، وأيضا فكيف يليق بالله تعالى أن يقول لموسى  وهارون  عليهما السلام : ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى    ) [ طه : 44 ] ثم يأمر جبريل    - عليه السلام - بأن يمنعه من الإيمان ، ولو قيل : إن جبريل    - عليه السلام - إنما فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله تعالى ، فهذا يبطله قول جبريل    ( وما نتنزل إلا بأمر ربك    ) [ مريم : 64 ] وقوله تعالى في صفتهم : ( وهم من خشيته مشفقون    ) [ الأنبياء : 28 ] وقوله : ( لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون    ) [ الأنبياء : 27 ] وأما إن قيل : إن التكليف كان زائلا عن فرعون في ذلك الوقت ، فحينئذ لا يبقى لهذا الفعل الذي نسب جبريل  إليه فائدة أصلا . 
ثم قال تعالى : ( فاليوم ننجيك ببدنك    ) وفيه وجوه : 
الأول : ( ننجيك ببدنك    ) أي نلقيك بنجوة من   [ ص: 126 ] الأرض ، وهي المكان المرتفع . 
الثاني : نخرجك من البحر ونخلصك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ، ولكن بعد أن تغرق . وقوله : ( ببدنك    ) في موضع الحال ، أي في الحال التي أنت فيه حينئذ لا روح فيك . 
الثالث : أن هذا وعد له بالنجاة على سبيل التهكم ، كما في قوله : ( فبشرهم بعذاب أليم    ) [ آل عمران : 21 ] كأنه قيل له ننجيك لكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك ، ومثل هذا الكلام قد يذكر على سبيل الاستهزاء كما يقال : نعتقك ولكن بعد الموت ، ونخلصك من السجن ولكن بعد أن تموت . 
الرابع : قرأ بعضهم " ننحيك " بالحاء المهملة ، أي نلقيك بناحية مما يلي البحر ، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب من جوانب البحر    . قال كعب    : رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور . 
وأما قوله : ( ببدنك    ) ففيه وجوه : 
الأول : ما ذكرنا أنه في موضع الحال ، أي في الحال التي كنت بدنا محضا من غير روح . 
الثاني : المراد ننجيك ببدنك كاملا سويا لم تتغير . 
الثالث : ( ننجيك ببدنك    ) أي نخرجك من البحر عريانا من غير لباس . 
الرابع : ( ننجيك ببدنك    ) أي بدرعك . قال الليث    : البدن هو الدرع الذي يكون قصير الكمين ، فقوله : ( ببدنك    ) أي بدرعك ، وهذا منقول عن  ابن عباس  قال : كان عليه درع من ذهب يعرف بها ، فأخرجه الله من الماء مع ذلك الدرع ليعرف . أقول : إن صح هذا فقد كان ذلك معجزة لموسى  عليه السلام . 
وأما قوله : ( لتكون لمن خلفك آية    ) ففيه وجوه : 
الأول : أن قوما ممن اعتقدوا فيه الإلهية لما لم يشاهدوا غرقه كذبوا بذلك وزعموا أن مثله لا يموت ، فأظهر الله تعالى أمره بأن أخرجه من الماء بصورته حتى شاهدوه وزالت الشبهة عن قلوبهم . وقيل كان مطرحه على ممر بني إسرائيل    . 
الثاني : لا يبعد أنه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعدما سمعوا منه قوله : ( أنا ربكم الأعلى    ) [ النازعات : 24 ] ليكون ذلك زجرا للخلق عن مثل طريقته ، ويعرفوا أنه كان بالأمس في نهاية الجلالة والعظمة ثم آل أمره إلى ما يرون . 
الثالث : قرأ بعضهم " لمن خلقك " بالقاف ، أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته . 
الرابع : أنه تعالى لما أغرقه مع جميع قومه ثم إنه تعالى ما أخرج أحدا منهم من قعر البحر ، بل خصه بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة العجيبة دالا على كمال قدرة الله تعالى  وعلى صدق موسى    - عليه السلام - في دعوى النبوة . 
وأما قوله : ( وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون    ) فالأظهر أنه تعالى لما ذكر قصة موسى  وفرعون وذكر حال عاقبة فرعون وختم ذلك بهذا الكلام ، وخاطب به محمدا    - عليه الصلاة والسلام - فيكون ذلك زاجرا لأمته عن الإعراض عن الدلائل ، وباعثا لهم على التأمل فيها والاعتبار بها ، فإن المقصود من ذكر هذه القصص حصول الاعتبار ، كما قال تعالى : ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب    ) [ يوسف : 111 ] . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					