( ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين    ) 
ثم قال تعالى : ( ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها  فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين    ) أحصنت أي عن الفواحش ؛ لأنها قذفت بالزنا . والفرج حمل على حقيقته ، قال  ابن عباس    : نفخ جبريل  في جيب الدرع ومده بأصبعيه ونفخ فيه ، وكل ما في الدرع من خرق ونحوه فإنه يقع عليه اسم الفرج ، وقيل : ( أحصنت ) تكلفت في عفتها ، والمحصنة العفيفة : ( فنفخنا فيه من روحنا    ) أي فرج ثوبها ، وقيل : خلقنا فيه ما يظهر به الحياة في الأبدان . وقوله : ( فيه ) أي في عيسى  ، ومن قرأ ( فيها ) أي في نفس عيسى  والنفث مؤنث ، وأما التشبيه بالنفخ فذلك أن الروح إذا خلق فيه انتشر في تمام الجسد كالريح إذا نفخت في شيء ، وقيل : بالنفخ لسرعة دخوله فيه نحو الريح . 
( وصدقت بكلمات ربها    ) قال مقاتل    : يعني بعيسى  ، ويدل عليه قراءة الحسن    ( بكلمة ربها ) وسمي عيسى  كلمة الله في مواضع من القرآن . وجمعت تلك الكلمة هنا ، وقال أبو علي الفارسي    : الكلمات الشرائع التي شرع لها دون القول ، فكأن المعنى صدقت الشرائع وأخذت بها وصدقت الكتب فلم تكذب ، والشرائع سميت بكلمات كما في قوله تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات    ) ( البقرة : 124 ) . وقوله تعالى : ( صدقت ) قرئ بالتخفيف والتشديد على أنها جعلت الكلمات والكتب صادقة يعني وصفتها بالصدق ، وهو معنى التصديق بعينه ، وقرئ ( كلمة ) و ( كلمات ) ، و ( كتبه ) و ( كتابه ) ، والمراد بالكتاب هو الكثرة والشياع أيضا . قوله تعالى : ( وكانت من القانتين    ) الطائعين قاله  ابن عباس  ، وقال عطاء    : من المصلين ، وفي الآية مباحث : 
البحث الأول : ما كلمات الله وكتبه ؟ نقول : المراد بكلمات الله الصحف المنزلة على إدريس  وغيره ، وبكتبه الكتب الأربعة ، وأن يراد جميع ما كلم الله تعالى ملائكته وما كتبه في اللوح المحفوظ وغيره ، وقرئ : ( بكلمة الله وكتابه ) أي بعيسى  وكتابه وهو الإنجيل ، فإن قيل : ( من القانتين    ) على التذكير ، نقول : لأن القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين ، فغلب ذكوره على إناثه ، ومن للتبعيض ، قاله في "الكشاف" ، وقيل : من القانتين ؛ لأن المراد هو القوم ، وأنه عام ، كـ ( واركعي مع الراكعين    ) ( آل عمران : 43 ) أي كوني من المقيمين على طاعة الله تعالى ؛ ولأنها من أعقاب هارون  أخي موسى  عليهما السلام . 
وأما ضرب المثل بامرأة نوح  المسماة بواعلة  ، وامرأة لوط  المسماة بواهلة  ، فمشتمل على فوائد متعددة لا يعرفها بتمامها إلا الله تعالى ، منها التنبيه للرجال والنساء على الثواب العظيم ، والعذاب الأليم ، ومنها العلم بأن صلاح الغير لا ينفع المفسد ، وفساد الغير لا يضر المصلح  ، ومنها أن الرجل وإن كان في غاية الصلاح فلا يأمن المرأة ، ولا يأمن نفسه ، كالصادر من امرأتي نوح  ولوط  ، ومنها العلم بأن إحصان المرأة وعفتها مفيدة غاية الإفادة ، كما أفاد مريم بنت عمران  ، كما أخبر الله تعالى ، فقال : ( إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك    ) ( آل عمران : 42 ) ومنها التنبيه على أن التضرع بالصدق في حضرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب  ، وإلى الثواب بغير حساب ، وأن الرجوع إلى الحضرة الأزلية لازم في كل باب ، وإليه المرجع والمآب ، جلت قدرته وعلت كلمته ، لا إله إلا هو وإليه المصير ، والحمد لله رب العالمين ، وصلاته على سيد المرسلين ، وآله وصحبه وسلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					