( قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث  فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون   ( 100 ) يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم   ( 101 ) قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين   ( 102 ) ) 
يقول تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : ( قل ) يا محمد   : ( لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك   ) أي : يا أيها الإنسان ( كثرة الخبيث   ) يعني : أن القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار  ، كما جاء في الحديث : " ما قل وكفى ، خير مما كثر وألهى  " . 
وقال أبو القاسم البغوي  في معجمه : حدثنا أحمد بن زهير  ، حدثنا الحوطي  ، حدثنا محمد بن شعيب  ، حدثنا معان بن رفاعة  ، عن أبي عبد الملك علي بن يزيد  ، عن القاسم  ، عن أبي أمامة  أنه أخبره عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري  أنه قال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه  " . 
( فاتقوا الله يا أولي الألباب   ) أي : يا ذوي العقول الصحيحة المستقيمة ، وتجنبوا الحرام ودعوه ، واقنعوا بالحلال واكتفوا به ( لعلكم تفلحون   ) أي : في الدنيا والآخرة . 
ثم قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم   ) هذا تأديب من الله [ تعالى ] لعباده المؤمنين ، ونهي لهم عن أن يسألوا ) عن أشياء ) مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها ; لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها ، كما جاء في الحديث : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يبلغني أحد عن أحد شيئا ، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر  " . 
وقال  البخاري   : حدثنا منذر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي  ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة  ، عن  [ ص: 204 ] موسى بن أنس  ، عن أنس بن مالك  قال : خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبة ما سمعت مثلها قط ، قال " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا " قال : فغطى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم لهم حنين . فقال رجل : من أبي؟ قال : " فلان " ، فنزلت هذه الآية : ( لا تسألوا عن أشياء   ) 
رواه النضر   وروح بن عبادة  ، عن شعبة  وقد رواه  البخاري  في غير هذا الموضع ومسلم  وأحمد   والترمذي   والنسائي  من طرق عن شعبة بن الحجاج  ، به . 
وقال ابن جرير   : حدثنا بشر  ، حدثنا يزيد  ، حدثنا سعيد  ، عن قتادة  في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم   ) الآية ، قال : فحدثنا أن أنس بن مالك  حدثه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه حتى أحفوه بالمسألة ، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر ، فقال : " لا تسألوا اليوم عن شيء إلا بينته لكم " . فأشفق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون بين يدي أمر قد حضر ، فجعلت لا ألتفت يمينا ولا شمالا إلا وجدت كلا لافا رأسه في ثوبه يبكي ، فأنشأ رجل كان يلاحى فيدعى إلى غير أبيه ، فقال : يا نبي الله ، من أبي؟ قال : " أبوك حذافة " . قال : ثم قام عمر - أو قال : فأنشأ عمر - فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد  رسولا عائذا بالله - أو قال : أعوذ بالله - من شر الفتن قال : وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لم أر في الخير والشر كاليوم قط ، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط  " . أخرجاه من طريق سعيد   . 
ورواه معمر  ، عن الزهري  ، عن أنس  بنحو ذلك - أو قريبا منه - قال الزهري   : فقالت أم عبد الله بن حذافة   : ما رأيت ولدا أعق منك قط ، أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس ، فقال : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته  . 
وقال ابن جرير  أيضا : حدثنا الحارث  ، حدثنا عبد العزيز  ، حدثنا قيس  ، عن أبي حصين  ، عن أبي صالح  ، عن  أبي هريرة  قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر ، فقام إليه رجل فقال : أين أبي ؟ فقال : " في النار " فقام آخر فقال : من أبي؟ فقال : " أبوك حذافة " ، فقام  عمر بن الخطاب  فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد  نبيا ، وبالقرآن إماما ، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك ، والله أعلم من آباؤنا . قال : فسكن غضبه ، ونزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم   ) إسناده جيد . 
وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من السلف ، منهم أسباط  ، عن  السدي  أنه قال في قوله :  [ ص: 205 ]  ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم   ) قال : غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما من الأيام ، فقام خطيبا فقال : " سلوني ، فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به " . فقام إليه رجل من قريش ، من بني سهم ، يقال له : عبد الله بن حذافة ، وكان يطعن فيه ، فقال : يا رسول الله ، من أبي؟ فقال : " أبوك فلان " ، فدعاه لأبيه ، فقام إليه  عمر بن الخطاب  فقبل رجله ، وقال : يا رسول الله ، رضينا بالله ربا ، وبك نبيا ، وبالإسلام دينا ، وبالقرآن إماما ، فاعف عنا عفا الله عنك ، فلم يزل به حتى رضي ، فيومئذ قال : " الولد للفراش وللعاهر الحجر  " . 
ثم قال  البخاري   : حدثنا الفضل بن سهل  ، حدثنا أبو النضر  ، حدثنا أبو خيثمة  ، حدثنا أبو الجويرية  ، عن ابن عباس  قال : كان قوم يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم   ) حتى فرغ من الآية كلها . تفرد به  البخاري   . 
وقال  الإمام أحمد   : حدثنا منصور بن وردان الأسدي  ، حدثنا علي بن عبد الأعلى  ، عن أبيه ، عن أبي البختري   - وهو سعيد بن فيروز   - عن علي  قال : لما نزلت هذه الآية : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا   ) [ آل عمران : 97 ] قالوا : يا رسول الله ، كل عام؟ فسكت . فقالوا : أفي كل عام؟ فسكت ، قال : ثم قالوا : أفي كل عام؟ فقال : " لا ولو قلت : نعم لوجبت  " ، فأنزل الله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم   ) إلى آخر الآية . 
وكذا رواه الترمذي   وابن ماجه  ، من طريق منصور بن وردان  ، به وقال الترمذي   : غريب من هذا الوجه ، وسمعت  البخاري  يقول : أبو البختري  لم يدرك عليا   . 
وقال ابن جرير   : حدثنا أبو كريب  ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان  ، عن إبراهيم بن مسلم الهجري  ، عن أبي عياض  ، عن  أبي هريرة  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله كتب عليكم الحج " فقال رجل : أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه ، حتى عاد مرتين أو ثلاثا ، فقال : " من السائل؟ " فقال : فلان . فقال : " والذي نفسي بيده ، لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه ، ولو تركتموه لكفرتم  " ، فأنزل الله ، عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم   ) حتى ختم الآية . 
ثم رواه ابن جرير  من طريق الحسين بن واقد  ، عن محمد بن زياد  ، عن  أبي هريرة   - وقال : فقام محصن الأسدي   - وفي رواية من هذه الطريق :  عكاشة بن محصن   - وهو أشبه .  [ ص: 206 ] 
وإبراهيم بن مسلم الهجري  ضعيف . 
وقال ابن جرير  أيضا : حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري  قال : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر  ، حدثنا أبو مطيع معاوية بن يحيى  ، عن  صفوان بن عمرو  ، حدثني  سليم بن عامر  قال : سمعت أبا أمامة الباهلي  يقول : قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فقال : " كتب عليكم الحج " . فقام رجل من الأعراب فقال : أفي كل عام؟ قال : فغلق كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأسكت واستغضب ، ومكث طويلا ثم تكلم فقال : " من السائل؟ " فقال الأعرابي : أنا ذا ، فقال : " ويحك ، ماذا يؤمنك أن أقول : نعم ، والله لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت لكفرتم ، ألا إنه إنما أهلك الذين من قبلكم أئمة الحرج ، والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض ، وحرمت عليكم منها موضع خف ، لوقعتم فيه  " قال : فأنزل الله عند ذلك : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم   ) إلى آخر الآية . في إسناده ضعف . 
وظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته  ، فالأولى الإعراض عنها وتركها . وما أحسن الحديث الذي رواه  الإمام أحمد  حيث قال : 
حدثنا حجاج  قال : سمعت  إسرائيل بن يونس  ، عن الوليد بن أبي هشام مولى الهمداني  ، عن زيد بن زائد  ، عن  عبد الله بن مسعود  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : " لا يبلغني أحد عن أحد شيئا ; فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر  " الحديث . 
وقد رواه أبو داود   والترمذي  ، من حديث إسرائيل   - قال أبو داود   : عن الوليد   - وقال الترمذي   : عن إسرائيل   - عن  السدي  ، عن الوليد بن أبي هاشم  ، به . ثم قال الترمذي   : غريب من هذا الوجه . 
وقوله : ( وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم   ) أي : وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على الرسول تبين لكم ، وذلك [ على الله ] يسير . 
ثم قال ( عفا الله عنها   ) أي : عما كان منكم قبل ذلك ( والله غفور حليم   ) 
وقيل : ) وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم   ) أي : لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها ، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق وقد ورد في الحديث : " أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته  " ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها حينئذ ، تبينت لكم لاحتياجكم إليها .  [ ص: 207 ] 
( عفا الله عنها   ) أي : ما لم يذكره في كتابه فهو مما عفا عنه ، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها . وفي الصحيح ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ذروني ما تركتم ; فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم  " . 
وفي الحديث الصحيح أيضا : " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها  " . 
ثم قال : ( قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين   ) أي : قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قوم من قبلكم ، فأجيبوا عنها ثم لم يؤمنوا بها ، فأصبحوا بها كافرين ، أي : بسببها ، أي : بينت لهم ولم ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد ، وإنما سألوا على وجه التعنت والعناد . 
قال العوفي  ، عن ابن عباس  قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم   ) وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن في الناس فقال : " يا قوم كتب عليكم الحج " . فقام رجل من بني أسد فقال : يا رسول الله ، أفي كل عام؟ فأغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبا شديدا فقال : " والذي نفسي بيده لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، وإذا لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا ، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه  " . فأنزل الله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم   ) نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة ، فأصبحوا بها كافرين . فنهى الله عن ذلك وقال : لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك ، ولكن انتظروا ، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه رواه ابن جرير   . 
وقال علي بن أبي طلحة  ، عن ابن عباس   : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم   ) قال : لما نزلت آية الحج ، نادى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الناس فقال : " يا أيها الناس ، إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا " . فقالوا : يا رسول الله ، أعاما واحدا أم كل عام؟ فقال : " لا بل عاما واحدا ، ولو قلت : كل عام لوجبت ، ولو وجبت لكفرتم " . ثم قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء   ) إلى قوله : ( ثم أصبحوا بها كافرين   ) رواه ابن جرير   . 
وقال خصيف  ، عن مجاهد  عن ابن عباس   : ( لا تسألوا عن أشياء   ) قال : هي البحيرة والوصيلة والسائبة والحام ، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك " ما جعل الله من بحيرة ولا كذا ولا كذا  " ، قال : وأما عكرمة  فقال : إنهم كانوا يسألونه عن الآيات ، فنهوا عن ذلك . ثم قال : ( قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين   ) رواه ابن جرير   .  [ ص: 208 ] 
يعني عكرمة  رحمه الله : أن المراد بهذا النهي عن سؤال وقوع الآيات ، كما سألت قريش  أن يجري لهم أنهارا ، وأن يجعل لهم الصفا ذهبا وغير ذلك ، وكما سألت اليهود  أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، وقد قال الله تعالى : ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا   ) [ الإسراء : 59 ] وقال تعالى : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون . ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون . ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون   ) [ الأنعام : 109 - 111 ] . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					