[ ص: 674 ] ثم دخلت سنة تسع وثلاثين 
فيها فرق  معاوية بن أبي سفيان  جيوشا كثيرة في أطراف معاملات علي بن أبي طالب ،   وذلك أن معاوية  رأى بعد أن ولاه عمرو بن العاص  الخلافة بعد اتفاقه هو وأبو موسى  على خلع علي  وعزله عن الأمر - أن ولايته صحيحة ، وقد وقعت الموقع ، فهو الذي تجب طاعته فيما يعتقده ، ولأن أهل العراق  قد خالفوا عليا  فلا يطيعونه ، ولا يأتمرون بأمره ، فلا يحصل بمباشرته مقصود الولاية والإمارة ، والحالة هذه ، فأنا أولى منه ; إذ كانت كلمة أهل الشام  ومصر  مجموعة علي  ، وهم طائعون لي ، يأتمرون بأمري ، وكلمتي نافذة فيهم . فعند ذلك جهز الجيوش إلى أطراف مملكة علي ،  فكان ممن بعثه في هذه السنة النعمان بن بشير  في ألفي فارس إلى عين التمر ،  وعليها مالك بن كعب  في ألف فارس مسلحة لعلي ،  فلما سمعوا بقدوم الشاميين   [ ص: 675 ] ارفضوا عنه فلم يبق مع مالك  إلا مائة رجل ، فكتب عند ذلك إلى علي  يخبره بأمر النعمان ،  فندب علي الناس إلى إغاثة مالك بن كعب ،  فتثاقلوا عليه ونكلوا ، ولم يجيبوا إلى الخروج فخطبهم علي  عند ذلك ، فقال في خطبته : يا أهل الكوفة ،  كلما سمعتم بمنسر من مناسر أهل الشام  قد أظلكم ، انجحر كل امرئ منكم في بيته ، وغلق عليه بابه ، انجحار الضب في جحره ، والضبع في وجاره ، المغرور والله من غررتموه ، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب ، لا أحرار عند النداء ، ولا إخوان ثقة عند النجاء ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، ماذا منيت به منكم ؟ عمي لا تبصرون ، وبكم لا تنطقون ، وصم لا تسمعون ، إنا لله وإنا إليه راجعون . ودهمهم النعمان بن بشير  في ألفي مقاتل ، وليس مع مالك بن كعب  إلا مائة رجل قد كسروا جفون سيوفهم ، واستقتلوا أولئك ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فبينما هم كذلك إذ جاءهم نجدة من جهة مخنف بن سليم  مع ابنه عبد الرحمن بن مخنف  في خمسين رجلا ، فلما رآهم الشاميون ظنوا أنهم مدد عظيم ، ففروا هرابا على وجوههم ، فاتبعهم مالك بن كعب  فقتل منهم ثلاثة أنفس ، وذهب الباقون لا يلوون على   [ ص: 676 ] أحد حتى قدموا الشام  ولم يتم لهم ما رجوا من هذا الوجه . 
وفيها : بعث معاوية  سفيان بن عوف  في ستة آلاف إلى هيت  فيغير عليها ، ثم يأتي الأنبار  والمدائن    . فسار حتى انتهى إلى هيت  فلم يجد بها أحدا ، ثم أتى الأنبار  وبها مسلحة لعلي  نحو من خمسمائة ، فتفرقوا ولم يبق فيها إلا مائة رجل ، فقاتلوا مع قلتهم وصبروا حتى قتل أميرهم - وهوأشرس بن حسان البكري    - في ثلاثين رجلا من أصحابه ، واحتمل الشاميون ما كان بالأنبار  من الأموال وكروا راجعين إلى الشام ،  فلما بلغ عليا  ما جرى لأهل الأنبار ،  ركب بنفسه فنزل بالنخيلة ،  فقال له الناس : نحن نكفيك ذلك يا أمير المؤمنين . فقال : والله ما تكفونني ولا أنفسكم ، وسرح سعيد بن قيس  في أثر القوم ، فسار وراءهم حتى بلغ هيت  فلم يلحقهم فرجع . 
وفيها : بعث معاوية  عبد الله بن مسعدة الفزاري  في ألف وسبعمائة إلى تيماء  وأمره أن يصدق أهل البوادي ، ومن امتنع من إعطائه فليقتله ، ثم يأتي المدينة  ومكة  والحجاز    . فسار إلى تيماء  واجتمع عليه بشر كثير ، فلما بلغ   [ ص: 677 ] عليا  خبره بعث المسيب بن نجبة الفزاري  في ألفي رجل ، فالتقوا بتيماء  فاقتتلوا قتالا شديدا عند زوال الشمس ، وحمل المسيب بن نجبة  على ابن مسعدة  فضربه ثلاث ضربات وهو لا يريد قتله بل يقول له : النجاء النجاء . فانحاز ابن مسعدة  في طائفة من قومه إلى حصن هناك فتحصنوا به ، وهرب بقيتهم إلى الشام ،  وانتهبت الأعراب ما كان جمعه ابن مسعدة من إبل الصدقة ، وحاصرهم المسيب  ثلاثة أيام ، ثم ألقى الحطب على الباب ، وألهب فيه النار ، فلما أحسوا بالهلاك أشرفوا من الحصن ، ومتوا إليه بأنهم من قومه ، فرق لهم وأطفأ النار ، فلما كان الليل فتح باب الحصن ، وخرجوا منه هرابا إلى الشام ،  فقال عبد الرحمن بن شبيب  للمسيب بن نجبة    : سرحني ألحقهم . فقال : لا . فقال : غششت أمير المؤمنين وداهنت في أمرهم . 
وفيها : وجه معاوية  الضحاك بن قيس  في ثلاثة آلاف ، وأمره أن يغير على أطراف جيش علي ،  فبعث إليه علي  حجر بن عدي  في أربعة آلاف ، وأنفق فيهم كل واحد خمسين درهما خمسين درهما ، فالتقوا بتدمر  فقتل حجر   [ ص: 678 ] من أصحاب الضحاك  تسعة عشر رجلا ، وقتل من أصحاب حجر  رجلان ، وغشيهم الليل ، فتفرقوا وانشمر الضحاك  بأصحابه فارا إلى الشام    . 
وفيها : سار معاوية  بنفسه في جيش كثيف حتى بلغ دجلة ، ثم كر راجعا . ذكره محمد بن سعد ،  عن الواقدي  بإسناده ، وأبو معشر  معه أيضا . 
وفيها ولى علي بن أبي طالب   زياد بن أبيه  على أرض فارس ،  وكانوا قد منعوا الخراج والطاعة ، وسبب ذلك ما تقدم من قتل  العلاء بن الحضرمي  وأصحابه بالنار حين حرقهم جارية بن قدامة ،  كما تقدم ، فلما اشتهر هذا الصنيع في البلاد شوش قلوب كثير من الناس ، وأنكروه جدا ، واختلفوا على علي ،  ومنع أكثر أهل تلك النواحي الخراج ، ولا سيما أهل فارس  فإنهم تمردوا وأخرجوا عاملهم سهل بن حنيف  عنهم ، فاستشار علي  الناس في من يوليه عليهم ، فأشار ابن عباس  وجارية بن قدامة  أن يولي عليهم  زياد بن أبيه ،  فإنه صليب الرأي ، عالم بالسياسة . فقال علي    : هو لها ، فولاه على فارس  وكرمان ،  فجهزه إليها في أربعة آلاف فارس ، فسار إليها في هذه السنة ، فدوخ أهلها   [ ص: 679 ] وقهرهم حتى استقاموا وأدوا الخراج ، ورجعوا إلى السمع والطاعة ، وسار فيهم بالمعدلة والأمانة ، حتى كان أهل تلك البلاد يقولون : ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنوشروان من سيرة هذا العربي في اللين والمداراة والعلم بما يأتي وما يذر ، وصفت له تلك البلاد بعدله وعلمه وصرامته ، واتخذ للمال قلعة حصينة ، فكانت تعرف بقلعة زياد ،  ثم لما تحصن فيها منصور اليشكري  فيما بعد ذلك ، عرفت به فكان يقال لها : قلعة منصور    . 
قال الواقدي    : وفي هذه السنة بعث علي بن أبي طالب   عبيد الله بن عباس  على الموسم ، وبعث معاوية   يزيد بن شجرة الرهاوي  ليقيم للناس الحج ، فلما اجتمعا بمكة  تنازعا ، وأبى كل واحد منهما أن يسلم لصاحبه ، فاصطلحا على شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الحجبي ،  فحج بالناس ، وصلى بهم في أيام الموسم . 
قال أبو الحسن المدائني    : لم يشهد  عبد الله بن عباس  الموسم في أيام علي  حتى قتل ، والذي نازعه يزيد بن شجرة  إنما هو  قثم بن العباس ،   [ ص: 680 ] حتى اصطلحا على  شيبة بن عثمان .  قال ابن جرير :  وكما قال أبو الحسن المدائني  قال أبو معشر    . 
قال ابن جرير :  وأما عمال علي  على الأمصار فهم الذين ذكرنا في السنة الماضية ، غير أن ابن عباس  كان قد سار من البصرة  إلى الكوفة ،  واستخلف على البصرة   زياد بن أبيه ،  ثم سار زياد  في هذه السنة إلى فارس  وكرمان  كما ذكرنا . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					