إنها تذكرة   فمن شاء ذكره  في صحف مكرمة  مرفوعة مطهرة  بأيدي سفرة  كرام بررة    . 
استئناف بعد حرف الإبطال ، وهو استئناف بياني ; لأن ما تقدم من العتاب ثم ما عقبه من الإبطال يثير في خاطر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحيرة في كيف يكون العمل في دعوة صناديد قريش  إذا لم يتفرغ لهم لئلا ينفروا عن التدبر في القرآن ، أو يثير   [ ص: 115 ] في نفسه مخافة أن يكون قصر في شيء من واجب التبليغ . 
وضمير ( إنها ) عائدة إلى الدعوة التي تضمنها قوله : فأنت له تصدى    . 
ويجوز أن يكون المعنى : أن هذه الموعظة تذكرة لك وتنبيه لما غفلت عنه وليست ملاما ، وإنما يعاتب الحبيب حبيبه . 
ويجوز عندي أن يكون كلا إنها تذكرة  استئنافا ابتدائيا موجها إلى من كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - يدعوه قبيل نزول السورة فإنه كان يعرض القرآن على الوليد بن المغيرة  ومن معه ، وكانوا يستجيبون إلى ما دعاهم ولا يصدقون بالبعث ، فتكون ( كلا ) إبطالا لما نعتوا به القرآن من أنه أساطير الأولين أو نحو ذلك . 
فيكون ضمير ( إنها تذكرة    ) عائدا إلى الآيات التي قرأها النبيء - صلى الله عليه وسلم - عليهم في ذلك المجلس ، ثم أعيد عليها الضمير بالتذكير للتنبيه على أن المراد آيات القرآن . 
ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى عقبه قتل الإنسان ما أكفره  الآيات ؛ حيث ساق لهم أدلة إثبات البعث . 
فكان تأنيث الضمير نكتة خصوصية لتحميل الكلام هذه المعاني . 
والضمير الظاهر في قوله ( ذكره ) : يجوز أن يعود إلى ( تذكرة ) ; لأن ماصدقها القرآن الذي كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - يعرضه على صناديد قريش  قبيل نزول هذه السورة ، أي : فمن شاء ذكر القرآن وعمل به . 
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الله تعالى ، فإن إعادة ضمير الغيبة على الله تعالى دون ذكر معاده في الكلام كثير في القرآن ; لأن شؤونه تعالى وأحكامه نزل القرآن لأجلها فهو ملحوظ لكل سامع للقرآن ، أي : فمن شاء ذكر الله وتوخى مرضاته . 
والذكر على كلا الوجهين : الذكر بالقلب ، وهو توخي الوقوف عند الأمر والنهي . وتعدية فعل ( ذكر ) إلى ذلك الضمير على الوجهين على حذف مضاف يناسب المقام . 
 [ ص: 116 ] والذي اقتضى الإتيان بالضمير وكونه ضمير مذكر مراعاة الفواصل ، وهي : ( تذكره ، مطهره ، سفره ، برره ) . 
وجملة فمن شاء ذكره معترضة بين قوله : ( تذكرة ) وقوله : ( في صحف ) . 
والفاء لتفريع مضمون الجملة على جملة ( إنها تذكرة    ) فإن الجملة المعترضة تقترن بالفاء إذا كان معنى الفاء قائما ، فالفاء من جملة الاعتراض ، أي : هي تذكرة لك بالأصالة وينتفع بها من شاء أن يتذكر على حسب استعداده ، أي : يتذكر بها كل مسلم كقوله تعالى : وإنه لذكر لك ولقومك    . 
وفي قوله : فمن شاء ذكره تعريض بأن موعظة القرآن نافعة لكل أحد تجرد عن العناد والمكابرة ،  فمن لم يتعظ بها فلأنه لم يشأ أن يتعظ . وهذا كقوله تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها  وقوله : لمن شاء منكم أن يستقيم  وقوله : وإنه لتذكرة للمتقين  ونحوه كثير ، وقد تقدم قريب منه في قوله تعالى : فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا  في سورة الإنسان . 
والتذكرة : اسم لما يتذكر به الشيء إذا نسي . قال الراغب    : وهي أعم من الدلالة والأمارة ، قال تعالى : فما لهم عن التذكرة معرضين    . وتقدم نظيره في سورة المدثر . 
وكل من ( تذكرة ) و ( ذكره ) هو من الذكر القلبي الذي مصدره بضم الذال في الغالب ، أي : فمن شاء عمل به ولا ينسه . 
والصحف : جمع صحيفة ، وهي قطعة من أديم أو ورق أو خرقة يكتب فيها الكتاب ، وقياس جمعها صحائف ، وأما جمعها على صحف فمخالف للقياس ، وهو الأفصح ولم يرد في القرآن إلا صحف ، وسيأتي في سورة الأعلى ، وتطلق الصحيفة على ما يكتب فيه . 
و ( مطهرة ) اسم مفعول من طهره إذا نظفه . والمراد هنا : الطهارة المجازية وهي الشرف ، فيجوز أن يحمل الصحف على حقيقته فتكون أوصافها ب ( مكرمة ، مرفوعة ، مطهرة ) محمولة على المعاني المجازية وهي معاني الاعتناء بها   [ ص: 117 ] كما قال تعالى : قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم    . وتشريفها كما قال تعالى : إن كتاب الأبرار لفي عليين  وقدسية معانيها كما قال تعالى : ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم  ، وكان المراد بالصحف الأشياء التي كتب فيها القرآن من رقوق وقراطيس ، وأكتاف ، ولخاف ، وجريد . 
فقد روي أن كتاب الوحي كانوا يكتبون فيها كما جاء في خبر جمع أبي بكر  للمصحف حين أمر بكتابته في رقوق أو قراطيس ، ويكون إطلاق الصحف عليها تغليبا ويكون حرف ( في ) للظرفية الحقيقية ، ويكون المراد بالسفرة جمع سافر ، أي : كاتب ، وروي عن  ابن عباس    . قال  الزجاج    : وإنما قيل للكتاب سفر - بكسر السين - وللكاتب سافر ; لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه ، يقال : أسفر الصبح ، إذا أضاء وقاله الفراء    . 
ويجوز أن يراد بالصحف كتب الرسل الذين قبل محمد    - صلى الله عليه وسلم - مثل التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، وصحف إبراهيم - عليه السلام - ، فتكون هذه الأوصاف تأييدا للقرآن بأن الكتب الإلهية السابقة جاءت بما جاء به . ومعنى كون هذه التذكرة في كتب الرسل السابقين : أن أمثال معانيها وأصولها في كتبهم ، كما قال تعالى : إن هذا لفي الصحف الأولى  صحف إبراهيم وموسى  وكما قال : وإنه لفي زبر الأولين  وكما قال : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى    . 
ويجوز أن يراد بالصحف صحف مجازية ، أي : ذوات موجودة قدسية يتلقى جبريل    - عليه السلام - منها القرآن الذي يؤمر بتبليغه للنبيء - صلى الله عليه وسلم - ، ويكون إطلاق الصحف عليها لشبهها بالصحف التي يكتب الناس فيها . ومعنى ( مكرمة ) عناية الله بها ، ومعنى ( مرفوعة ) أنها من العالم العلوي ، ومعنى ( مطهرة ) مقدسة مباركة ، أي : هذه التذكرة مما تضمنه علم الله وما كتبه للملائكة في صحف قدسية . 
وعلى الوجهين المذكورين في المراد بالصحف ، " فسفرة " يجوز أن يكون جمع سافر ، مثل كاتب وكتبة ، ويجوز أن يكون اسم جمع سفير ، وهو المرسل في أمر   [ ص: 118 ] مهم ، فهو فعيل بمعنى فاعل ، وقياس جمعه سفراء وتكون ( في ) للظرفية المجازية ، أي : المماثلة في المعاني . 
وتأتي وجوه مناسبة في معنى ( سفرة ) ، فالمناسب للوجه الأول أن يكون السفرة كتاب القرآن من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو أن يكون المراد قراء القرآن ، وبه فسر قتادة  وقال : هم بالنبطية القراء ، وقال غيرهم : الوراقون باللغة العبرانية . 
وقد عدت هذه الكلمة في عداد ما ورد في القرآن من المعرب كما في الإتقان عن  ابن أبي حاتم ،  وقد أغفلها السيوطي  فيما استدركه على ابن السبكي  ،  وابن حجر  في نظميهما في المعرب في القرآن أو قصد عدم ذكرها لوقوع الاختلاف في تعريبها . 
والمناسب للوجه الثاني : أن يكون محمله الرسل . 
والمناسب للوجه الثالث أن يكون محمله الملائكة ; لأنهم سفراء بين الله ورسله . 
والمراد بأيديهم : حفظهم إياه إلى تبليغه ، فمثل حال الملائكة بحال السفراء الذين يحملون بأيديهم الألوك والعهود ، وإما أن يراد : الرسل الذين كانت بأيديهم كتبهم ، مثل : موسى  وعيسى  عليهما السلام . 
وإما أن يراد كتاب الوحي مثل  عبد الله بن سعد بن أبي سرح ،  ،  وعبد الله بن عمرو بن العاص ،  ، وعمر ،  ، وعثمان ،  ، وعلي ،  ، وعامر بن فهيرة    . 
وكان بعض المسلمين يكتب ما يتلقاه من القرآن ليدرسه ، مثل ما ورد في حديث إسلام  عمر بن الخطاب  من عثوره على سورة طه مكتوبة عند أخته أم جميل فاطمة  زوج  سعيد بن زيد    . 
وفي وصفهم بالسفرة ثناء عليهم ; لأنهم يبلغون القرآن للناس وهم حفاظه ووعاته ، قال تعالى : بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتو العلم  فهذا معنى   [ ص: 119 ] السفرة . وفيه بشارة بأنهم سينشرون الإسلام في الأمم ، وقد ظهر مما ذكرنا ما لكلمة ( سفرة ) من الوقع العظيم المعجز في هذا المقام . 
ووصف ( كرام ) مما وصف به الملائكة في آيات أخرى كقوله تعالى : كراما كاتبين    . 
ووصف البررة ورد صفة للملائكة في الحديث الصحيح قوله الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة   . 
والبررة : جمع بر ، وهو الموصوف بكثرة البرور . وأصل بر مصدر بر يبر من باب فرح ، ومصدره كالفرح ، فهذا من باب الوصف بالمصدر مثل عدل وقد اختص البررة بجمع بر ولا يكون جمع بار . 
والغالب في اصطلاح القرآن أن البررة الملائكة والأبرار الآدميون . قال الراغب    : لأن بررة أبلغ من أبرار إذ هو جمع بر ، وأبرار جمع بار ، وبر أبلغ من بار ، كما أن عدلا أبلغ من عادل . 
وهذا تنويه بشأن القرآن ; لأن التنويه بالآيات الواردة في أول هذه السورة من حيث إنها بعض القرآن فأثني على القرآن بفضيلة أثره في التذكير والإرشاد ، وبرفعة مكانته ، وقدس مصدره ، وكرم قراره ، وطهارته ، وفضائل حملته ومبلغيه ، فإن تلك المدائح عائدة إلى القرآن بطريق الكناية . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					